تشرق اللّغة العربيّة اليوم في عيدها حروفا ناصعة تلبس تاج التميُّز، ليُحتفى بها في يومها العالمي، الذي حددته الأمم المتحدة ليكون يوماً خاصاً للعربية، ليس فقط لما تحمله من غنًى وثراء لغويّ، بل لما لها من أثر حضاريٍّ بالغ يظهر في تكوين لغات عدة، ويشكل مؤشراً واضحاً على عراقتها، وقربها من الإنسان في كافة الميادين، لذلك أجرينا هذا الحوار، على هامش الاحتفال لتسليط الضوء على، أهم النقاط المرتبطة بالعربية في ميادين العلم، و ميادين الحياة، من خلال تجربة أكاديميّة لها قيمتها في المسيرة العلمية و الأدبيّة، كان لنا حديث مع الدكتورة ندى صالح، عضو الهيئة التدريسية في جامعة الرشيد الدُّوليَّة الخاصة للعلوم والتكنولوجيا.
١.كيف تحوّل شغفك باللغة العربية إلى تخصّص أكاديمي؟
في الحقيقة لم تكن اللغة العربية إحدى الخيارات الأكاديمية بالنسبة لي، غير أن مقاربتها بوصفها تخصصاً علميَّا، هو من خلق الشغف المعرفي بها، وحولها إلى خيار أكاديمي معمَّق، مما يعني أن المعرفة العميقة التي منحتني إياها رحاب العربية، هي من خلقت الشغف الأكاديمي، وحولت هذه اللغة الراقية إلى ٱليات تفكير وبحث، تجاوزت حدود اللغة، إلى المعنى والإبداع الفكري في اتجاهات عدة .
٢.هل أحدثت مرحلة الدكتوراه فرقًا في مسيرتك البحثيّة وكيف؟
– مما لا فيه فالرؤيا العلمية قد اتسعت، وأدوات البحث تنوعت، وأصبحت أكثر نضجاً، مما يؤثر بشكل كبير في الإنتاج العلمي من حيث النوع ومن حيث الكم فيما بعد.
٣.ما أبرز التحديات التي واجهتها في مسيرتك المهنية في التعليم الجامعي؟ وكيف تجاوزتِها؟
– أعتقد من أهم التحديات التي واجهتها بعد تحدي المناهج، هي الأفكار العلمية الموروثة، التي استقرت في ٱليات التفكير عند أبنائنا، ولا تريد أن تتغير، تدعمها مناهج وثقافة مجتمعية كاملة، فغرس معايير جديدة ومتطورة في ٱليات التفكير يحتاج إلى إيمان كبير بالطالب وقدرته على تلقي ما هو جديد ليتمكن فيما بعد من القيام بعملية التطوير الحقيقية، ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن ألفت إلى أن المقصود * بأفكار علمية موروثة* تلك التي تجعل الإنسان ذو قيمة لأنه طبيب، أو حتى لأنه يدرس الطب، و تغفل أن ما يجعله ذو قيمة أولا هو أنَّه إنسان، ليس أي شيء ٱخر.
– إنَّ تغيير مثل هذا الموروث الذي ينعكس على المجتمع فيما بعد بنتائج غير حميدة، هو أبرز التحديات الصعبة التي واجهتها، وقد تجاوزتها إلى حدٍّ ما بتوجيه ٱلية التفكير عند الطلاب إلى قيمة ذواتهم المنتجة العميقة التي تضمن لهم التميز و الاستدامة، فلماذا نقول هذا طبيب مميز وناجح، وهذا طبيب لن أعود إليه ابدا؟! الطبيب غير القادر على قراءة المريض لخلق التواصل النفسي معه، والوصول إلى المشكلة من �
٤. كيف يمكن للأستاذ الجامعي أن يخرج من إطار التعليم التلقيني؟
لعلَّ من أخطر الأشياء التي يواجهها المعلم في جميع المراحل، تحديدًا في المرحلة الجامعية، أن يقود المعلومة إلى ذهن الطالب بشكل نظري جاف، لا يوجد فيه تفاعل، بشكل مفصول تمامًا عن التطبيق، ومفصول أكثر عن الاستخدام الفعلي في الحياة، وكيفية الاستفادة منها مهنيًا وعلميًا. فالتلقين لا يكون للأحياء بل يكون للأموات، نزولًا عند قول سيدنا محمد عليه وآله الصلاة والسلام: «لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله»؛ إذن من ينحو هذا النحو إنما يميت المعلومة ويميت العقل.
من هنا تبرز أهمية هذا السؤال الذي يوجَّه نحو معرفة الحل لهذه المشكلة، وهو بسيط جدًا؛ يكفي أن نرى أنفسنا نحن المعلمين في مقام المتعلِّم، فنُعطي المجال الأرحب للطالب كي يتفاعل مع المعلومة، ونستفزه ليطوّرها، فيأتينا بالأفضل من خلال سعيه لإثبات صحة تفكيره. عندما يرى المعلم نفسه متعلمًا من طلبته، ينفتح أفق المعلومة من خلال التفاعل وتتحول إلى ميدان البحث والتطوير.
علينا دائمًا أن نتذكر أن السيد المسيح عليه السلام كان يغسل أقدام تلامذته، ليس كناية عن التواضع فقط، بل كناية عن التفاعل مع مسيرتهم التي يجب أن تكون مسيرة مباركة ذات أثر. إذن علينا أن نؤمن بطلبتنا ونتفاعل معهم، وهم من سيحوّلون أي معلومة إلى بحث عميق نشط دائم التطور.
—
٥. كيف تقيّمين مناهج اللغة العربية الجامعية، وهل ترين ضرورة لتحديثها؟
لا أستطيع أن أبدي تقييمًا للمناهج التي تُدرَّس في الجامعات عامة، بل أتوجه إلى المناهج التي تُدرَّس العربية للطلاب العرب غير المختصين. فإذا ما وضعنا هذه المناهج تحت معايير التقييم العلمية، للأسف سنجدها في معظمها قاصرة، لا تؤدي غرضًا علميًا نافعًا للطالب، ولا تهتم بمعايير الكفاءة العلمية، انطلاقًا من وجهة نظر ترى أن العربية ليست لغة العلوم.
من هنا أكتفي بقول السيد المسيح عليه السلام: «من ثمارهم تعرفونهم». وكلِّي أمل أن نرقى يومًا لا إلى فكر اللغة العربية فقط، ولا إلى قيمة اللغة العربية فقط، بل إلى فكر الأمم المتحدة التي تخصص يومًا للاحتفال باللغة العربية، واصفةً إياها بأنها لغة الفكر ولغة الإنسان في كافة الميادين، وأنها من اللغات الأولى من حيث الاستخدام في العالم. عجبًا أن تُنصف هذه اللغة من الغريب أكثر من أبنائها ومستعمليها في أنحاء الوطن العربي الجميل، فحبذا أن تتطور آليات التفكير باللغة قبل تطوير المناهج.
—
٦. ما تقييمك للمنصّات الرقمية ودورها في تعليم اللغة العربية؟
أي شكل من أشكال التعليم له وجه إيجابي ووجه سلبي، ويتوقف ذلك على نضج مهارات التعليم لدى القائمين على إدارة وتنفيذ العملية التعليمية. والمنصات الرقمية إحدى هذه الأشكال، فإذا امتلك القائمون عليها أدوات مهنية ومعرفة ناضجة استطاعت أن تؤدي عملًا لافتًا يتماشى مع التطور الرقمي الذي تعيشه مجتمعاتنا اليوم، ويتماشى أيضًا مع التطور السريع للمعلومة.
—
٧. ما تقييمك للنقد الأدبي اليوم؟
لا يمكن تقييم النقد الأدبي بمعزل عن حركة الإبداع بشكل كامل، إذ يمكن أن يشكّل النقد حلقة الوصل العلمية بين المبدع والمتلقي والنص، من خلال محاكاة آليات التفكير العليا لدى المبدع والمتلقي وربطها بالبنية المعرفية للنص.
وبالنظر إلى ما نملكه من محتوى معرفي في فنون النثر والشعر على اختلاف أشكالهما، يمكن أن نطمئن إلى أن الحركة النقدية نشطة وقادرة على إغناء المشهد الأدبي والثقافي. لكن اسمحي لي أن أتسع بدائرة السؤال قليلًا لأسأل عن الأثر الذي يتركه النقد، خصوصًا، والأدب عمومًا، على مجتمعاتنا اليوم؛ للأسف سنلاحظ أن الأثر محدود جدًا، ومحصور في دائرة ضيقة من أصحاب الاختصاص والمهتمين.
نطمح أن ينتقل هذا الأثر إلى البنى المجتمعية على اختلافها، فتعود الرواية والقصة والشعر والمسرح إلى ممارسة دورها في بناء إنسان ومجتمع سليمين. عندها فقط سنقول إن النقد بخير.
—
٨. هل تؤثر وسائل التواصل اليوم في تعلم اللغة العربية وكيف؟
لا شك أن وسائل التواصل تؤثر في معظم اللغات الطبيعية، لا في اللغة العربية فقط، إذ تظهر باستمرار صفحات تروّج لهذه اللغات من خلال طرائق استخدام التراكيب والجمل والمفردات ضمن مواقف متنوعة، كما تقدم استخدامًا دارجًا أو عاميًا.
لكن يجب الانتباه إلى أن مقاربة اللغة بشكل عشوائي غير مدروس، لا يراعي معايير علمية في التعلم، سيؤدي إلى خلط في المستويات اللغوية، وتحصيل عشوائي يؤثر سلبًا في آليات التفكير بشكل تراكمي مع الزمن. كما أن تغليب الشكل العامي على الفصيح يضعف مهارات القراءة والكتابة، ما ينذر بمشكلة ثقافية تؤثر في تشكل الوعي المجتمعي مستقبلًا.
—
٩. ما أبرز الأهداف الأكاديمية التي تطمحين إلى تحقيقها؟
يتمثل أبرز أهدافي الأكاديمية في إعادة تموضع اللغة العربية بين العلوم، وعدم الاستسلام للفكر الرائج الذي يعزلها عن العلوم التطبيقية بحجة عجزها عن مواكبة المصطلح العلمي.
فكيف استطاع الزهراوي وابن سينا والرازي إدخال مصطلحات عربية إلى معاجم الغرب من خلال اكتشافاتهم العلمية؟ ألم يكونوا يستخدمون اللغة العربية؟ كيف لم تكن قاصرة في زمنهم، وأصبحت قاصرة في زمننا وهي اللغة ذاتها؟ علينا أن ندرك أن الرمية ليست من السهم بل من الرامي؛ فحيث نكون تكون لغتنا، لأن اللسان إنسان في الحقيقة.
—
١٠. ما النصيحة التي تقدمينها للباحثين الجدد في اللغة العربية؟
من تجربتي المتواضعة أقول لهم مقولة القديس بولس: «إن الحرف يقتل والروح يحيي». فالحرف هنا هو النظرية أو القانون، والروح هي الفكرة التي نؤمن بها. آمنوا بأفكاركم، طوّروها، وافتحوا لها الأفق، فالهدف الأسمى للبحث العلمي هو الإضافة، وقد تصنع هذه الإضافة تغييرًا ينقض النظرية من أساسها. آمنوا بالروح ولا تكونوا سجناء الحرف.
—
١١. ما رأيك بالملتقيات الأدبية وتحديدًا ملتقى الشعراء العرب؟
حقق لي هذا الملتقى إضافة معرفية وخبرة ثقافية، وفتح أفقًا واسعًا على تجارب إبداعية غنية من داخل الوطن العربي وخارجه. ويُعد ملتقى الشعراء العرب النافذة الأرحب التي تفتح أفق الإبداع عندي شعرًا ونقدًا نحو التنوع والتجدد والجمال.
ولا شك أن رئيس الملتقى الأستاذ ناصر عبد الحميد رمضان، إلى جانب الفريق المتكامل، كان السبب الرئيس في ارتقاء هذا العمل نحو آفاق الإبداع اللامحدود.
حاورتها من لبنان د. جيهان الفغالي

















