قصّة قصيرة- آيات الصّبّان
في تلك المنطقة المنعزلة البعيدة عن كل شئ، خارج حدود المكان والزمان، في قلب المجهول الذي لم يعرفه أحدا من قبل، كانت تلك الأرض الكبيرة مترامية الأطراف الفارغة من كل شئ إلا هذا القصر الكبير بحديقة كبيرة أمامية يحدها بين المبني والسور الخارجي أرض شاسعة يحيط بها الكثير من الأشجار الباسقة بمختلف الثمار والزهور، بينما خلف المبني تقع حديقة جرداء شديدة القبح، تنبت بها نباتات شيطانية ويملؤها العشب الأصفر يقال عنها حديقة الأموات، يسكنها موتى القصر وسط السواد والعدم حيث لا تنبت الأشجار أبدا، كان سكان القصر لا يعرفون ماذا يوجد خلف تلك الأسوار، لم يكن يجرؤ أي منهم على الاقتراب من تلك المنطقة حيث كل شئ مخيف وغامض، الكل يروي قصصًا عما يحدث هناك، الذاهبون إلى مصير غامض بلا عودة، والباقون ينسجون الأساطير عن تلك الريح العاصفة التي تبتلع كل من يعبر هذا الجدار، أو هذا المطر الأسود الذي يأكل الأجساد وينخر العظم، ظل الخوف هو بضاعة البائعين وحكمة الحكماء حتى امتلك القصر كما امتلك أرواح سكانه.
أول من عاش بهذا المنزل هو صاحبه السيد: (العارف بالله الكامل) كان رجلا صالحا وشديد الثراء، في حياته تزوج من أربع زوجات من عمره، إلا زوجته الأخيرة فقط، كانت أجملهن وأصغرهن، لكنها كانت قليلة الصبر، كثيرة الملل والتذمر والشكوى.
أنجب (العارف) ثمانية من الأبناء، أربعة ذكور و أربع إناث، ذكرًا وأنثى من كل زوجة، وعاش معه بذات القصر أخاه السيد: (نديم الكامل) الذي بدوره كان متزوجًا من امرأتين، أنجب من كل امرأة ولدين وبنتين، أي ثمانية أبناء هو الأخر، كان الجميع يعيش في هذا المنزل في سلام وأمان حتى بدأت تظهر بوادر المرض على العارف، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت
في هذه الفترة بدأت قصة حب بين شقيقه وآخر زوجاته
تظهر على السطح، كان الحرص قد خانهم من فرط
الانغماس في الهوى حتى بدأ سكان المنزل يشعرون
بما يحدث ويتهامسون فيما بينهم، زوجتي نديم ( جميلة
وأمل) أكلتهن الغيرة من مشاعر نديم تجاه زوجة أخيه صغيرة السن حسناء، بينما زوجات العارف الثلاث الأخريات (كريمة) و(بارعة) و(أمينة) قررن إخفاء شكوكهن عن زوجهن المريض خوفًا عليه وخشية أن تعجل الصدمة بوفاته، و لكن كان عليهن مواجهة (حسناء) و(نديم ) بحزم بتلك الشكوك وتحذيرهم من عقبات تلك الأفعال.
في هذا المجلس الذي أقامته نسوة العارف كان الأمر أشبه بمحاكمة لنديم وحسناء، كانت النساء متيقنات من أن الأمر قد خرج عن السيطرة وأن العاشقين لابد و أن يخافا مما سيحدث لهما في حال وصل الأمر إلى العارف، كان الأمر على سبيل التهديد، و أن العارف قد يلقي بهم خلف الأسوار للعتمة والعدم أن أدرك بخطيئتهم في حقه.
بعد الكثير من الإنكار والالتفاف حول الحقائق، لم يجد النديم بدًا من مسايرتهن والرضوخ لأوامرهن حتى يفكر في الأمر ويصل إلى حل مناسب يخرج به من هذا المأزق، وطلب من حسناء إظهار الندم على هذه العلاقة وإبداء رغبتها العميقة في التكفير عن هذا الذنب، في نفس الوقت كان نديم يعلم أنهن لا يمتلكن الجرأة ليفشين بهذا السر للعارف بسبب حالته الصحية وخوفهن عليه، كان مطمئنًا لذلك لكن كان يحتاج فرصة قليلة من الوقت لوضع خطته القادمة.
بدأت الفكرة تتبلور في رأس نديم، كانت أول خطوة هي إبعاد الجميع عن العارف وعزله عن الجميع، و حظر أي اتصال بين زوجاته وابنائه وبينه، ظل يفكر كثيرا في كيفية تنفيذ ذلك حتى اهتدي إلى خطة كان نديم مزارعًا ماهرًا يهتم بأمور الزراعة والعطارة ويحب تجربة الأعشاب والوصول إلى فوائدها وأضرارها بإجراء التجارب طيلة الوقت، كان كذلك المسؤول عن زراعة تلك الأراضي الشاسعة ليأكل من خيراتها سكان القصر، و لهذا هداه تفكيره إلى وضع القليل من نبات معين ينبت بشكل شيطاني على أطراف المزرعة في الطعام المقدم للعارف و كريمة زوجته الأولى لكونها أكثر من يحتك بالعارف وتقيم معه بشكل دائم أثناء مرضه، كان يعرف أن هذا النبات يثير
الحكة ويخرج البثور من الجلد و يتسبب في حرقانه والألم الشديد بمختلف أنحاء الجسد، وبدأ في خلط تلك العشبة في طعام كريمة عن طريق حسناء لبضعة أيام حتى ظهر عليها المرض، ثم بدأ في دس نفس العشبة للعارف في طعامه ليبدو الأمر كما لو كانت زوجته قد مرضت بمرض معدي ونقلته له، و عليه قام نديم بحظر أي لقاء بين العارف وأي شخص إلا هو، كما أمر بعزل كريمة في غرفة وحدها بعيدة عن أبنائها خشية تفاقم المرض بين أفراد المنزل.
لم يكن نديم للحق يعلم أن الكمية التي استخدمها قاتلة، كان الأمر يتلخص في رغبته أن تظهر الأعراض سريعا على كريمة والعارف حتى يمنع التواصل بينهما من جهة وبين العارف والأخريات من جهة أخرى، لذلك شعر بالأسى بعد أن توفت السيدة كريمة بعد يومين من عزلها كنتيجة لمرضها.
أما العارف بالله فقد شعر بقرب المنية وانتابه مع ذلك الإحساس باقتراب الموت حدسًا يحذره من الثقة بأخيه، لذلك استغل خروج أخيه إلى الحديقة وتحامل على ذاته وشعوره بالمرض وخرج إلى زوجته أمينة وأعطاها مفتاحًا لباب غرفته وأخبرها أنه خبأ في هذه الغرفة وصية يوصي فيها لأبنائه بالكثير، وأمرها أن تحتفظ بالمفتاح في مكان آمن حتى وفاته، لكن حين سألته عن مكان الوصية بالغرفة قال لها على من يبحث أن ينظر إلى السماء وأن يعلم أنه كلما أزداد ارتفاعًا كلما اقترب من الوصية، وهنا باغتهم نديم من الخلف قادمًا في ثورة كبيرة على أخيه الذي خرج من مرقده دون إذنه.
أخفت أمينة المفتاح في ملابسها حتى لا يراه نديم، بينما اصطحب نديم أخاه إلى غرفته وتملأه الشكوك عن سبب تلك الزيارة المفاجئة، و ظل يلّح على أخاه في الحديث ليصارحه بالسبب بينما العارف لا يجيبه إلا بنظرة وداع وبضع كلمات مبهمة ظل يرددها كثيرًا (هنا وضعت السر يا أخي لكني أعلم أنك لن تقبله) حتى صعدت روحه إلى بارئها
بعد وفاة ودفن العارف بدأ نديم في تفتيش الغرفة باحثًا عن سر مقولته، ماذا يخبئ أخاه في الغرفة، و هل لهذا السر علاقة بزيارته لأمينة؟
ظل نديم يبحث كل يوم حتى فقد الأمل فقرر أن يخبر الجميع أن هذه الغرفة موبوءة بالمرض وحرم على الجميع الدخول إليها وأسماها غرفة الموت.
في هذه الأثناء، وخشية أن يحدث لها مكروه فيضيع السر معها، أخبرت أمينة بارعة بسر المفتاح وطلبت منها أن تكتم السر حتى يشتد عود الأبناء ويبحثون عن الوصية، كما أخبرتها بأن العارف ما كان ليفعل ذلك أبدًا لو كان يثق في أخيه نديم، وأن نديم يعلم بأن هناك ما يخبئه العارف بالغرفة ولذلك حرّم على الجميع دخولها.
اتفقت المرأتان على حفظ سر المفتاح عن الجميع حتى يصل أكبر الابناء إلى سن الشباب ليكون قادرا على مواجهة عمه وحماية إخوته من بطشه وليحصل على وصية الأب
أخفت أمينة المفتاح بدورها في غرفتها، وأبلغت بارعة بأن عليها أن تنظر خلف حدود الزمن حتى تجد المفتاح، بينما على الباحث داخل غرفة العارف أن ينظر إلى السماء ويرتفع لينال الوصية.
استغربت بارعة كثيرًا من تلك المقولة لكن أمينة طمأنتها أن الله سيدل الباحث الحقيقي عن مكان المفتاح ومكان الوصية، فقط عليه أن يعرف تلك الرموز ليصل إلى حل اللغز
بعد وفاة العارف بفترة قصيرة تزوج نديم من حسناء، وأصبحت سيدة القصر، بدأ نديم في التفرقة بين الأبناء، فأصبح أبناءه من زوجاته وذريته من حسناء في المقام الأول في المنزل، كما أكرم أبناء حسناء من عارف ودللهم حبًا فيها، أما أبناء عارف من زوجاته الأخريات فقد بدا وكأنهم يخسرون مكانتهم بالمنزل، ومع تفاقم الوضع وزيادة الظلم يومًا بعد يوم، قرّرت أمينة أن تخرج سر المفتاح والوصية لأكبر أبنائها ماهر الذي كان قد وصل لسن الشباب بالفعل وأصبح قويا وقادرًا على المواجهة، إلا أن أكبر أبنائها استخف كثيرًا بالأمر، ولام أباه أشد اللوم على ترك الوصية محاطة بلغز، كيف أنظر إلى السماء فأجد الوصية؟
أي ترهات تلك يا أمي؟
هكذا أجابها ابنها الأكبر، وأخبرها بأن الأفضل له أن يتزوج من ابنة عمه التي يحبها
وأن يكسب ثقة عمه النديم بدلا من مجازفة غير مأمونة الجانب، وأنهى الحديث بأن أباه كان غارقًا في تخاريف المرض الأخير و أنه لا وصية هنا ولا هناك، الغرفة بها الموت ولا شئ إلا الموت، وبدا جليًا لأمينة أن ابنها لن يجازف بحياته ويخسر علاقته بعمه وحبيبته ليجري وراء الأوهام.
نما إلى علم نديم تحريض أمينة لابنها على دخول الغرفة للبحث عن شئ ما، بعد أن أخبر ماهر شقيقته راقية وأخاه الأصغر غير الشقيق شاكر ابن السيدة بارعة بالأمر ساخرًا من تفكير أمه العتيق وعالم الرموز والألغاز الذي تعيش فيه، أيّدته شقيقته ورأت في رأيه حكمة ولكن أخاه الأصغر شاكر نقل الأمر بدوره إلى كامل أخاه الأكبر غير الشقيق من السيدة كريمة الذي قرر أن يذهب إلى السيدة أمينة ليستوضح منها الأمر.
في الصباح استيقظ الجميع على صرخات راقية التي وجدت أمها ميتة في سريرها بشكل مفاجئ، لم تكن أمينة تعاني من أي مكروه، لكن كانت الوفاة تبدو ظاهريًا طبيعية، لم يكن يظهر على أمينة آثارًا لأي اعتداء وبالرغم من أن الجميع كان يشعر أن النديم هو القاتل بعدما تم تداوله من حكايات بالقصر إلا أنهم جبنوا عن اتهامه او إظهار شكوكهم تجاهه خوفا من بطشه، وهكذا دفنت الجثة خلف القصر في حديقة الأموات بجوار العارف وكريمة.
كانت بارعة متأكدة من أن النديم هو من قتل أمينة ليمنعها من الافشاء بالسر، لذلك أكدت لابنها شاكر وأخاه الكامل أن هناك بالفعل مفتاحًا ووصية، وأن المفتاح موجود بغرفة أمينة خلف حدود الزمن، وأما الوصية فهي في غرفة العارف يجدها من ينظر إلى السماء ويرتفع.
تعجب الكامل كثيراً مما قالته السيدة بارعة، ولكن كان يعلم في داخله بحكمة أبيه وصلاحه، وكان واثقًا أن أباه ما كان ليقول كلامًا بلا هدف، كان مصدقًا متيقنًا من صدق أباه وصدق الرواية، وكان إيمانه يحدثه بأنه سيجد الحل للغز وسيصل إلى الوصية كما أراد أباه.
دخل الكامل إلى غرفة أمينة وبدأ في البحث هنا وهناك، أين هي حدود الزمن
هكذا كان يحدث ذاته طوال البحث حتى وقعت عيناه على ساعة رملية فوق طاولة وخلفها لوحة على الجدار بها ساعة رملية أخرى، وهنا أدرك أن حل اللغز قد يكون هناك، مد يده إلى اللوحة وأخرجها من مكانها فوجد المفتاح ملصقًا بالخلف، بدا الكامل ممتنًا كثيرًا لعثوره على المفتاح وشعر أن هناك قوى خفية أو ربما هي روح والده تساعده أن يصل إلى حقيقة الأمر.
لم يخبر الكامل أي شخص بما وجده، كان يخشى من بطش عمه النديم، أراد أن يصل إلى الحقيقة في منتهى الحرص، أدرك حقيقة عمه ومدى شراسته، وأنه لن يترك أي شخص يصل إلى الوصية، وفي تلك الليلة في الفجر قرر الكامل أن يذهب إلى غرفة أبيه ليبحث عن الوصية، تسلل بهدوء وفتح الباب بخفة وأغلقه خلفه، ثم ذهب إلى شمعة فأشعلها وجاء بكرسي واعتلاه ناظرًا إلى الأعلى، كان سقف الغرفة مزخرفًا بالعديد من الرسومات، ملائكة وشياطين وبشر ومسوخ على هيئة بشر، ولكن حين اقترب أكثر وأكثر من السقف، وجد على أطراف السقف سحابات وغيوما، قرر أن يضع وسائد فوق الكرسي ليعلو أكثر وأكثر ويقترب، وجد تحت إحدى السحابات وخلف زركشة الجانب فجوة في الحائط غير مرئية لمن ينظر من الأسفل، مد يده داخل الفجوة ليجد الوصية.
عاد الكامل إلى غرفته وفض الوصية من غلافها وبدأ في القراءة:
إلى من يجد وصيتي من ابنائي، طوال حياتكم ظننتم أن هذا القصر هو الحياة، امضوا خلف الأسوار واخرجوا، خلف السور تمتد الآفاق إلى ما لا نهاية، لا تخضع لمَ تراه، ما لا تراه هو أكبر وأعمق، دع عنك الخوف والهوية والتعلق وامضي إلى المجهول، المجهول هو الحقيقة الوحيدة.
ظل الكامل يقرأ الوصية مرارًا و تكرارًا و قرر أن يواجه عمه واخوته في اليوم التالي، عزم الأمر على أن ينفذ وصية والده وأن يرحل مع من يقبل الرحيل من إخوته، في الصباح حين أخبرهم أنه وجد وصية أباه وأن فحواها في الرحيل خارج القصر إلى المجهول، ضحك النديم من قلبه واتهم أخاه بجنون المرض، ودعا الجميع إلى اتخاذ القرار الآن.
من يرحل فليرحل ومن يبقي سيبقي وفق شروط البقاء، وأول تلك الشروط الانصياع التام لأوامره.
رفض الجميع الخروج مع الكامل إلا شقيقته تقية وزوجة أبيه بارعة وابنها شاكر وابنتها فضيلة، خرج الخمسة معا إلى الحقيقة المجهولة ساعين إلى النور اللامع خلف الأسوار تاركين خلفهم القصر.
الغريب أنه فور خرجوهم إلى النور خلف أسوار القصر، نظروا خلفهم، فلم يجدوا للقصر أي أثر.
فقد تحول المبني بكل ما يحيط به إلى سحابة سوداء ثم اختفى كما الحلم
آيات الصبان
__.
السيرة الذاتية
كاتبة روائية و اديبة مصرية من مواليد القاهرة، تخرجت من كلية الاداب بجامعة عين شمس
اتجهت الي العمل بكبري الشركات العالمية محليا و بالوطن العربي و تقلدت و ما زالت ارفع المناصب القيادية
مهتمة بالكتابة للمجتمع بفئاته المختلفة خاصة ما يلقي بالظلال علي قضايا المرأة و الطفل الحقوقية و يساعد في ابراز المشكلات المتعلقة بذلك لتسليط الضوء عليها
كتبت العديد من المقالات الادبية و القصص القصيرة ، القصائد و الشعر الغنائي بالعديد من المجلات و الجرائد المحلية و العربية
_عضو ملتقى الشعراء العرب
صدر لها سابقا
ديوان شعر باسم نبضات امرأة
رواية شبكة العنكبوت – دار سما للنشر و التوزيع
دوامات العقل – مجموعة قصصية عن دار سما للنشر و التوزيع
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي