قراءة متواضعة في نصِّ الأديبة
“عبير حسن علَّام”
—روايةٌ غواية بِنكهةٍ خضراء، بِروح النخيل—
قلَّما يستوقفك نصٌّ بِجُرمِ الدَّهشة، لتجد نفسكَ في كمينٍ.. يحيطُ بك عساكر النَّشوة من كلِّ كلمة وزقاقٍ وصورةٍ ورمزٍ وتأويلٍ ومجاز!
مصفَّد النُّطق..
والتهمة.. تحرُّشٌ بالحياة مع سبقِ الإبهار والدَّلالة.
لم يكن من السَّهل أبدًا أن أتجاوز سطرًا واحدًا من قيافةِ تموضع دوريات حرس الصُّور العميقة الأخَّاذة، دونما إبراز هويَّة الانتماء إلى وطنٍ نقشت حدوده في اللَّاحدود.
والسَّرد التعبيريُّ.. هو امتلاك ملكة السَّرد مع التعبير. فكأنَّك تقرأ لوحة فنيَّة بعينيك قبل شغاف فكرك ونياط قلبك.. ليكتمل المشهد الإخراجيُّ بطريقةٍ صوريَّة مذهلة:
_ الرَّمزيَّة في البناء الدراميِّ بناءٌ ينبثق من روح الكاتب، وتعاقبٌ تراكميٌّ يخرج من اللَّامنطق ليغدو منطقًا بحدِّ ذاته، شامل الأطراف، متحركًا في ثباته! ثابتًا في مشاكساته!
عندما تكتب الأديبة 《عبير علَّام》
صناعة الحدث..أو -لأكن أكثر إنصافًا- ترجمة الحدث،
لن تجد أبدًا أيَّ فذلكة مدسوسة على النصِّ بداعي البهرج الأدبيِّ والاستحواذ على اهتمام المتلقي من خلال تصنُّع الميلودراما (الحبكة) على حساب رسم الشخصيَّة الشِّعريَّة للنصِّ ككلٍّ. إنَّما هي قتامة مضيئة تستمدُّ سيرتها من عفويَّةٍ
سراجيَّةٍ لا تخبو، رغم الرسم الشجنيِّ الواضح لمكامن النصِّ. وهذا ما كان جليًّا في بداية (( روايةٌ غواية…))
وهذه الترجمة تحتاجُ بعدًا صادقًا استمدَّت أديبتنا صلصال ذكرياتها منه: “وحلاوة شطائر السُّكَّر الدافئة بعد أن أَنفضَ عنها ما حمله الهواء من الشجر…”
_ استنطاق الصوَر في تراتبيَّةٍ ذات أبعادٍ مشهديَّة تؤسِّس لما بعدها وفق تسلسل متصلٍ منفصل!:
وهذا ما أسمِّيه السياق الزَّمنيَّ لحدثٍ تنبثقُ منه أحداثٌ ثانويَّة تغدو أساسًا في كينونتها وشموليتها الخاصَّة.
عندما تقرأ للأديبة 《عبير علَّام》، لا تحتاج أبدًا إلى البحث عن كاف التشبيه لِخلق أنموذجٍ معيَّنٍ في طريقة تهاطل الصوَر ودقًا! إنَّما هو غيثٌ متزامنٌ مع صفعاتٍ رعديَّة مدوِّية، تُلزمك بإعادة القراءة مراتٍ ومرات.
ولأنَّ الكتابة إثم القارئ؛ فأنت متورطٌ بأسلوبها السهل الممتنع العميق، لتكون شريكًا في جريمة النشوة الأدبيَّة.
أنصحك بالحذر أمام كلِّ نطقٍ وخلف كلِّ فاصلة؛ فهناك يقبع الشيطان الأدبيُّ.
ولسوف تُغوى وتَترك ملَّةَ أدبٍ لا يحمل مثل هاته الشَّعائر.
_ الأنا الوجديَّة وذوبانها في القيمة الجمعيَّة:
هذا النصُّ روايةٌ غواية بكلِّ ما يحمله المضمَّنُ من مضمونٍ؛ كلَّنا غرفٌ في هذا الفندق، وكلُّنا يطلُّ على ذاته وفق مكانيَّةِ زمانه! وكلُّنا ارتشاف هاتيك القهوة وبقاياها…
هذا الأسلوب الرمزيُّ السَّاحر السَّاخر في هدم البناء بعد تشييده وتوزيع الغرف علينا بطريقة حقائب الغبار ولفائف الماريغوانا الدمعيَّة مناصفةً مع دخان البقاء والرحيل!
هو فلسفة الإقحام القسريِّ العفويِّ في أعمدة ذواتنا وتركنا حبالًا تتمطَّى أمام سقوطٍ نقفزه فرحين.
تاركةً الباب مفتوحًا أمام سياقاتك الخاصَّة.
أقتبسُ الخاتمة حين رسمت أديبتنا
“من غرفتي في الطابق الأربعين في الفندق، أطلُّ على الدنيا فلا أطلُّ إلَّا عليك”.
من الممتع جدًّا أن أرى رسمكم الأدبيَّ هذا سيِّدتي، وأقرأ كلَّ هذا العمق المجنون.
وأعتقدُ جازمًا وبدون ريبٍ أدبيٍّ:
لا يكتبُ مثل هذا النصِّ إلَّا من مسَّهُ الجنون.
احترامي الأبديّ.
لصاحبة “أنتَ لم تغمر نفسكَ يومًا لتدرك كم هو باردٌ هذا العالم من دون ذراعيك”.
فادي حسن /١٣ حزيران
النصّ
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
—– روايةٌ غواية بِنكهةٍ خضراء، بِروح النخيل— من غرفتي في الفندق، أطلُّ على شوارع تتقاطع بلا انتهاء...
تغزو أنفي رائحة طلاء الأظافر -الذي كانت خالتي تخصُّني به كلَّما زرتُها- فتنسرب معها صورتك إلى خلايا دماغي بين حبات كلِّ عقدٍ زيَّنت به خالتي رقبتي الطفلة. فيك ما يستثير ذكريات الطفولة: رائحة الاحتفاء بطلاء الأظافر، عبق خبز الصاج تحت شجرة “المَيس” الوارفة، وحلاوة شطائر السُّكَّر الدافئة بعد أن أَنفضَ عنها ما حمله الهواء من الشجر… من غرفتي في الفندق، أطلُّ على تفاصيل حديثنا المسائيِّ الأخير:
تَرى -كما يرى الجميع!!- أنني امرأةٌ قوية!!
أدندن لك:
“Solide est l’écorce mais le bois est tendre”
فلا تدرك أنَّ “julio” في أغنيته تلك روى شجني وروى بعضي…
أمشي -مرتجفةً سكرى- كمُريدٍ لا يدثِّره إلَّا معطف فَقْدِك..
كيف أثبت لك أنني لستُ قويَّةً كما تظنُّني أو تراني؟
كيف أثبتُ لك أنني ضعيفة وهشَّةٌ ورهيفة وشفيفة.. وأحتاجك؟
من خلال الزجاج يتراءى لي النهار متثائبًا متمطِّيًا في تواطؤٍ غير مُعلنٍ مع صداعي المتلازم مع كلِّ سفرٍ بِحُكمِ كوني كائنًا تُرابيًّا. من يُدلِّك إذًا جبين الليل حين يعربد الصداع في جذوري؟
من سِواكَ يا صبح الله في روحي..؟
يا روح النهار وروح الليل..
من سِواك يا مهرجان الربيع في عيوني بوجهِ كلِّ قتامة الدنيا؟ نتجاذب الحديث كطرفَي روحٍ..
أعيدُ عليك الأسئلة ذاتها في كلِّ لقاء كطفلةٍ تريد أن تسمع في كلِّ صباحٍ مِن (بابا) كم يُحبُّها (بابا). ولليُتمِ أشكالٌ كثيرة كما تعلم.
لكنَّك لم تكن تعلم أنَّني لا أحبُّ القهوة حتى بعد أن أعددتُها لك مرارًا. لِذا حاولتُ في غيابك أن أحتسيها لعلّي أجاريك في المرَّة القادمة وأشاركها فيك، إلَّا أنني لم أكتشف فيها سوى نكهتك.
ليس للقهوة سوى نكهتك فيها!
ليس للبنِّ طعمٌ سوى ما يتركه فيه من نحبُّهم.. ما يتعمَّد أن يتركه فيه أولئك الذين يغادرون ويتركون نصف فنجانٍ ينتظر في احتراقِ الجليدِ الموعدَ الآتي…
وكروحٍ تأخذ قيلولتها في ترقُّب، لربما يباغتنا الموت بين فنجانين قاب نبضَين أو أدنى من عتبة الباب المُتعَب. لم أعرف قبلك رجلًا عفويًّا بغير تهيُّبٍ أو حَرَج.. يفترش عُقَدَه على سرير الشهوة ويطلق فيها العنان لِمبضع الجرَّاح يفصِّل ويفنِّدُ.. وأنا التي لم ألزم طيلة حياتي دور المستمعة في صمتٍ، أقف على خطِّ النار لأستمع كصديقةٍ على الحياد إلى آثار حروفهنَّ الأولى في دمك.
لم أعرف قبلك رجلًا صريحًا بغير وقاحة، وموجِعًا بغير ألم.
لم أعرف شاعرًا كأنت، يقبض على المعنى بتمكُّن الخالق من خلقه، وتأتيه اللغة طائعةً في خفَّة الراقص على أطراف أصابعه على الجمر.
لم أعرف سِواكَ كائنًا نهريًّا شجريًّا شجنيًّا كمثل تماوج روح النسائم الألوهية في قريتنا المائية.
تقول: لا تخبريني عن شاعرك البائس الذي كان.
فأجيب بسرعة الحسم: كان.
أتغار ممَّن مضى؟
تجزم: أنا حبيبٌ بمفعولٍ رجعيٍّ.
يهمسُ قلبي: بل أنتَ صديقٌ بمفعولٍ عكسيٍّ.
وأسألك: أنت تميِّز في نَصِّي بين ما هو لك من الكلمات وما هو له، صحيح؟
فتجيب: أنا لا أقرأ نصَّكِ من هذا المنطلق.
- تقصد أنَّك تقرأه من منطلقٍ أدبيٍّ، لا من منطلقٍ شخصيٍّ؟
- بالطبع يمسُّني شخصيًّا، لكنني لا أضع نفسي في مقارنةٍ مع أحد.
فأجيب: (يسلم لي الواثق من نفسه).
هل تعلم أنَّك الأنقى والأرقى بوجه هذا الزمن الغريب المُريب الذي نشهده شبابًا بِروح المشيب؟
وأنَّك فيَّ فصولُ الرواية و(لُبُّ) الحكاية؟
كيف أثبت لك أنني واهنةٌ بدونك وحيدة؟ من غرفتي في الطابق الأربعين في الفندق، أطلُّ على الدنيا كأنَّني أطلُّ على موتي وحياتي معًا فيتهاوى قلبي شظايا…
وإذا بي أطلُّ على اخضرار عينيك!
من غرفتي في الطابق الأربعين في الفندق، أطلُّ على الدنيا فلا أطلُّ إلَّا عليك.عبير حسن علَّام ٢٢/ أيار/ ٢٠٢١
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي