القارئ
تتناثر ألوان الخريف كطيف زائر في سراب الجمال. اوراق الشجر المصطف عند الرصيفين، بألوانها الترابية الدافئة، تدعوك لسحر شلالات النور المسترسلة بدلع على حجارة الرصيف.
في اذنيها سماعات. تنصت والبسمة تشرق في وجهها الطفولي رغم مرور الزمن. فيروز تفترش روحها، تحلق بصوتها الملائكي فتتربع عيناها في سحب بيضاء خجولة من طهر الصباح. وصلت مترنحة سكرة على اغنية فيروزتها “بعدك على بالي يا قمر الحلوين” الى مقهاها العتيق في شارع الحمراء. جلست في زاويتها، فرشت اغراضها على الطاولة المستديرة “جريدة النهار، دفترها المهترئ، وهاتفها الخليوي”. أطل الغارسون ببسمته قائلاً “أهلا بالجمال ينور يومنا…كالعادة قهوة مرة وصحن سجائر”. أومأت له بايجاب وقالت “بدونك، المقهى يفقد بريقه”. اشرقت بسمة الرضى على وجهه والتفت لها “دقائق وطلباتك اوامر”.
وبينما كانت تقرأ الجريدة، جلس قبالتها رجل اربعيني، وسيم القسمات ، خصل الشعر الأبيض الناعم تتوج هامته.. تزيده تألقا ونضجا. يرتدي معطفاً بني اللون ويطوق رقبته بشال أزرق سماوي. وبكل هدوء سحب الكتاب من حقيبته بانتظار من يلبي طلباته.
“كابوتشينو وسكر وصحن سجائر”.
كأن الدنيا لا تعنيه، فقط الكتاب يطوق عينيه العسليتين، تأسره الأحرف فيغيب في البرج العاجي الذي خلقه لنفسه.
أسرتها هذه اللوحة والضوء المتسلل من النافذة على مقعده. وأخذت باللاوعي تراقبه.
ادركت في لحظة انه يقرأ نفس الكتاب. انتابتها الحيرة، افردت له كل الوقت لمراقبته. كانت ترفع عينيها لتروي ظمأ حشريتها.
انفاس سجائرهما تلاقت في جو سوريالي راقص، تعانقت بدلال. كاد ينهي الكتاب، استجمعت قوتها، غالبت خجلها ودفنته حيا في فانوس العادات البالية. اقتربت من طاولته وقالت له بصوتها المبحوح من اثر التدخين “هل تسمح لي بالجلوس”. لأول مرة نظر إليها، اخجلتها تعابير وجهه الوقحة التي تهادت بجذل من الرأس الى الكعب. كاد كبرياؤها يرديها صريعة نظراته المتدفقة بشغف. استجمعت كل ما اوتيت من قوة وجلست في المقعد البارد.
“لم آذن لك! ولكن لم لا؟…انت جميلة كالفجر الإلهي”. اسرتها الكلمات وقالت “لم أقصد مقاطعتك ولكن ما تقرأه شدني لأني سبق ان قرأته”.
وبكل رحابة قال لها “لقد لفت انتباهي بالبداية العنوان الآسر للرواية (اخلع عباءة الشرق)، وجذبني روعة الغلاف بتجرد لوحته بالرغم من أن الكاتبة مغمورة. لكن اشتريته بهدف معرفة قيمته الأدبية”.
أفردت لنفخة دخانها مساحة في مساحات ايقونتها السرية وتنهدت:
أنا قرأته كإمرأة تعاني ما تعانيه المرأة الشرقية. ساقني فضولي لمعرفة ما تطرحه من قضايا.
بعد أن أخذ مجة من سيجارته ، شرع يبرز اهمية الكتاب. ” هذه الكاتبة تتمتع اولا بفكر متحرر من المحرمات، داست بقدمها على كل ما يمنع تطور المرأة وألقت الضوء القوي على تصرفاتنا الذكورية التي نخشى التخلي عنها من أجل قوامتنا.
طبعا وكما تربينا أن نحلم في وسادات آبائنا …الفتاة خلقت جميلة للمتعة…الأنثى مهامها أن ترعى الأطفال وترضي بالطبع زوجها.. المرأة ينبغي ان تتحلى باﻷنوثة والدلع لري شبقنا… التنظيف، الرعاية طبعا، الطبخ وغيرها من مهام البيت السعيد…ها ها ها…ها
هل سأل يوما زوج زوجته ماذا تريد؟ هل يرضيها برائحة الطريق فوق السرير؟ هل اشبع رغباتها.. هل أنصت لألمها بعد كل ولادة؟
أسئلة كثيرة تثيرها الكاتبة على طريقتها.
تضيء بمعمودية قلمها اللاذع هموم المرأة منذ قرون في الشرق والغرب معا. وتنفث عاصفة رملية في فيافي مصيبتنا. أضف الى ذلك كله، هي تمتلك اللغة الأنيقة والصور المشبعة بالحرارة.. بصراحة لقد شدني الكتاب من أوله الى خره.. وانت؟”
كانت منطلقاتي في القراءة كإمرأة تنحني للعبة زمان القهر في جسدها منذ طفولتها. لم تتقبل العائلة وجودي لأنني انثى .. بالطبع كانوا يمنون نفسهم بصبي. تربيت أن أرضى بما قسم الله لي. جل ما ابتغيته لنفسي أن أكمل دراستي واستمتع كما أخي في هنيهات المراهقة. راعني كثرة الممنوعات والمحرمات
“ممنوع على الفتاة أن تخرج… ممنوع أن تكمل تعليمها… الزواج ستر للفتاة… عرض الفتاة ايقونة تتدلى بثقلها فوق رقبتها.. تزوجت وبسبب عنف زوجي وبخله تطلقت وبت بلا اسم ولا هوية… تعرفني الدنيا بكلمة “مطلقة” غير مرغوبة.
رأيت نفسي في الكتاب… كأنها ترثي لحالتي وترفعني بلحظات فوق سبع سماوات.
نظرت اليه بابتسامة عريضة وقالت “أخبرني هل انت ناقد؟”
نعم… وسأفرد رأيي بهذه الرواية المدهشة في صفحات الجرائد.
ما رأيك!!!
انا مجرد إمرأة ، إمرأة كتبت هذه الرواية.
سمر دوغان
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي