مع شعراء العامية في مصر – فاتن البقري
أشرنا في مقالة سابقة إلى دور شعر العامية ومساهمته في تشكيل الوجدان الجمعي لدى جمهور كبير من محبي الشعر ، , وما عليه فقط ( أي شعر العامية أو شاعرها) إلا أن يتحرر من القوالب الجاهزة من العبارات والتراكيب ، وقلنا إن التجديد في الصورة يمكن أن يكون متكئا لهذا التجديد ، وذلك لأن التجديد في المعنى لا يتاح إلا لشاعر عامية لديه مساحة ثقافية كبيرة تمنحه القدرة على التحليق في المناطق غير المطروقة أو غير المأهولة على الأقل. وفاتن البقري من الذين ينحازون -فيما قرأت لها- إلى مدرسة التجديد في المعنى ، وهي تمتلك من الثقافة و العمق ما يؤهلها لذلك ، ولكنها مع ذلك لا تهجر الصورة الشعرية تماما ، بل توظفها بحساب دقيق كأحد المرتكزات الجمالية دون إسراف حتى لا تتحول إلى صورة مجانية ـصبح عبئا على القصيدة .
تقول أمل البقري في قصيدة بعنوان :” كنت قوللي انك بشر”
“لما انت مش قادر
على حمل الرسالة
ليه تقوللي إنك نبي؟
جي بلمسة من عصايتك
تنتهي كل الآهات
خلتني أحلم بس ليه
بالمعجزات؟
خلتني أعيش عصر الطيابه
والصحابة الأولين
خلتني اصدق
ان ممكن
لمسة منك
تحيي فينا الميتين”
وبدءا من العنوان ” كنت قوللي انك بشر ” ، يمكن أن ندرك أن الشاعرة تراهن على المعنى لا الصورة، وهذه مخاطرة لشاعر العامية ، لأنه مطالب أن يقنعنا أنه قادر على توليد المعاني الجديدة ، دون مساندة من التصوير ، وبالفعل بدأت الشاعرة تقنعنا من عنوانها التهكمي) من( الرجل) المخاطب ، سواء كان زوجا أو حبيبا ، وتمتد مساحة التهكم لتشمل المتكلم أيضا ، لأن المتكلم صدق أن هناك أنبياء يمكن أن يظهروا من وقت لآخر ، مع أن عصر النبوة انتهى، فالمتكلم أيضا ليس مبرأ من سذاجة التصديق لأدعياء نبوة( العشق ) أو الحلم المزيف ، و العنوان يشير أيضا إلى أزمة المرأة التي لديها (قابلية عجيبة للانخداع) مع أول نظرة أو ككلمة حب، أملا في تحقيق حلم الزواج أو تجربة المغامرة العاطفية.
والقصيدة من إيقاع بحر الكامل ؛ وهو من أكثر البحور استعمالا على مدار تاريخ شعرنا العربي، وذلك لرشاقة إيقاعه وانسياب نغماته دون أي قلق صوتي في تفاعيله . وإذا انتقلنا إلى مطلع القصيدة ، نتأكد من أن رهان الشاعرة على المعنى رهان رابح، حيث تقول :
“لما انت مش قادر
على حمل الرسالة
ليه تقوللي إنك نبي؟
وهو معنى جديد ومفاجئ ( ليه تقول إنك نبي) ، هكذا دون تصوير ، ثم تقول :
جي بلمسة من عصايتك
تنتهي كل الآهات
خلتني أحلم بس ليه
بالمعجزات؟
والشاعرة تواصل هنا الرهان في (مضمار المعاني) ، لكنها ليست معاني معتادة في ششعر العامية ، لذلك فالقارئ لديه رغبة في مواصلة السماع أو القراءة ، وعلى المستوى الإيقاعي ، فإن القارئ لابد أن ينطق كلمة ( خلتني) دون إشباع لحرف الياء ، بل بنون مكسورة فقط ، لذلك قامت بإبراز همزة أحلم حتى لا يحدث خلل إيقاعي.
وتواصل الشاعرة نفس النهج حتى نهاية القصيدة ، دون أن نتعرض للتفاصيل الكثيرة حتى يمكن أن ننتقل إلى عمل آخر ، يجعلنا نطمئن على تقييمنا للاتجاه الفني لدى الشاعرة.
في قصيدة ” على الهامش” والتي يحمل عنوانها إيقاعها ( الوافر- مفاعلتن)، وهو بحر راقص، تقول :
“وع الهامش
أنا ما أنفعش أكون أنثى
على الهامش
أنا ممكن أكون عقلك
أكون فكرك
أكون المعنى فيك عايش
أكون موجودة فـ وجودك
و أكون لحنكك و أكون وترك
و أكون عودك “
ومرة ثانية نتأكد من فكرة رهان الشاعرة على المعنى والإيقاع، ونلحظ التلاعب هنا بعبارة ” وع الهامش” التي تحمل دلالة ثنائية ، فمرة تشير إلى هامش الحياة ، ومرة أخرى هامش الكلام ، فهي باعتبارها الأنثوي ترفض التهميش ، لكنها دون أن تدرى تقع في شرك الأنثى المهمشة ، لأنها لم تعلن رغبتها في التمرد من خلال كلام جرئ يحتل لب والحوار وقضيته ، بل أعلنت تمردها (على الهامش)
وفي قصيدة ثالثة تنحاز الشاعرة للتصوير في مطلع قصيدتها ثم تواصل مشروعها الفني المتكئ على التجديد من خلال المعنى.، والقصيدة التي نعنيها بعنوان غيبوبة ، تقول الشاعرة :
” يوماتي الشمس بتجيني
تصحيني تفوقني
ولما عليكي تسألني
أقول بكرة أكيد ها تقوم
تعيش الشمس تستنى …
وأنا استنى
يعدي اليوم … ولا تقومي”
وبغض النظر عن الرمزية في القصيدة والمخاطب فيها ، فإن المطلع هنا يختلف بطريقة( دمثة) عن مطالع القصيدتين اللتين أشرنا إليهما ، حيث تتكئ الشاعرة قليلا على تقنية التصوير ، وتحلق حوله دون أن تقتحمه بقوة .
وهو ما يجعلنا نطمئن على تقييمنا لاتجاهها الفني.
إن فاتن البقري شاعرة واسعة الثقافة ، ولديها عمق ورؤية فلسفية ، تنطلق في مساحات أفقية شاسعة من الموضوعات المختلفة على المستويين الخاص و العام، ولذلك فهي تدرك أنها تستطيع أن تمتلك تلك المنطقة (منطقة المعنى )، أما الصورة ، فهي أحد الملامح الفنية التي تتكئ عليها أحيانا عندما يكون المعنى مألوفا، وهو ذكاء فني يحسب لها .
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي