الحكاية بدأت …
كنت طفلاً، وكنت أقضي ساعة العصاري في شرفة البيت متفحصًا الأشكال والخيالات القادمة من الأفق البعيد الذي تحده ناصية الشارع علني ألمح بينهم أبي عائدًا من العمل، ولأنه حنون ولأني ولده الوحيد كان الإغداق والكرم عادة يومية، وكانت الشرفة محطة قطار لملهوف يتفحص وجوه القادمين عله يجد بينهم من طال انتظاره، فعودته تمثل الابتسامة (والشلن، وخد الجميل، واللب والسوري) وهذه أشياء تساوي كنز علي بابا بالنسبة إلي.
فجأة وقف عصفور –على سورالشرفة- غير بعيد عني، اقتربت منه بحذر، ولم أصدق نفسي حين أمسكته، وعلى غير عادة العصافير لم يحاول التملص من قبضتي الصغيرة، رأيت في عينيه امرأة مشوهة الوجه وثلاثة شياطين صغار، ودم حيض ورسومات عجيبة، وسمعت .. صراخًا وعويلاً، وصوتًأ يشبه الهمس يردد ( باسم إبليس …قلخ ام رش نم …)؛ فنقرني العصفور وطار مذعوًرا… وأكمل الصوت الصادر من المرأة التي لم انتبه لوجودها( بقو اذإ قساغ رش نمو…)، كانت واقفة في الشارع، التقت عيناي بعينيها فتسمرتا، وكانت تتمتم وتعيد تمتمتها بوتيرة منتظمة، ولم ينقذني من قبضة عينيها سوى أذان العصر، كانت بشعة المنظر وجهها المشوه … كان … كـ…. كأن قطارًا قد دهسه عدة مرات، فتفنن في تشويهه، كان مشهدًا مفقودًا من إحدى روايات الأخوين (غريم)، قفزت إلى الداخل كغريق يبحث عن شط وسط المحيط، ولا أعلم حتى الآن لِمَ لم أخبر أمي بذلك.
نتحلق حول (الطبلية) لتناول الغداء، يحكي لنا عن يومه كيف صار، ثم قبل أن يجلس إلى خليلته المخلصة التي اعتاد أن يبوح لها بأسراره ويضع فمه على مبسمها يمتص من غابها الرحيق المسحور ثم ينفثه دخانًا يخرج ما بداخله من هموم اليوم والأمس وبعض القلق من المستقبل، أو أحيانًا تريه أحلامه الضائعة وهي تتراقص أمامه في قاع الواقع الأليم ، فيحاول يائسًأ أن ينتشلها دون جدوى، فيأخذ نفسًا أعمق عله يصيب، وكان كلما قل الرحيق أعاد تغذيتها بالفحم المتوقد وأجاد تنسيقه على الحجر، كي يستخرج كل ما بداخلها من أحلام يحبسها وحش الواقع، وعندما يتعبأ صدره بالدخان والحسرة والألم يترك القارورة المسحورة مسندًا غابها إلى الحائط الذي كساه السواد، معلنًا انتهاء النزال، مرجئًا الحسم إلى يوم آخر….
كنت أنتظره على باب ذلك العالم مادًا يدي إليه في إصرار:
- بابا! … عايز شلن!
- يوجد فكة تحت المخدة، خذ شلن، شلن واحد بس.
هذه الجملة كانت كأنها “افتح يا سمسم”، فأقتنص الشلن الذي يغير يومي 180 درجة، فـ (خد الجميل واللب السوري) خليلاي الملازمان لي وأنا أشاهد التليفزيون، وكنت أدخل في سباق مع ثلاثة قراطيس من اللب السوري وبعد أن أقضي على آخر حبة فيها، تكون الجائزة هي التحلية بخد الجميل ويتزامن ذلك مع بدء حلقة مسلسل (روبي روبير) فكنت أسند رأسي على حجر أمي شاعرًا بدفء أنفاسها وحنان يدها التي تمشط رأسي بينما كان روبي روبير يكاد يتجمد وحيدًا.
بين الثلوج كان، خرجت له من العدم امرأة وجهها كان مشوهًا كأن قطارًا قد دهسه عدة مرات، لكنها لم تكن تنظر له بل لي، وبدأت تتمتم ثانية: ( باسم إبليس …قلخ ام رش نم … بقو اذإ قساغ رش نمو…).
لم أنتبه إلا وأمي تضعني على السرير وتدثرني بأغطية كثيرة وهي تقرأ المعوذتين: - قل أعوذ برب الفلق من شر….
قاطعتها متوسلاً إليها أن تبقى بجواري… - ماذا جرى لك، لقد كنت ترتجف بشدة؟!
- كانت هناك … امرأة … وعصفور..
انقطع التيار الكهربائي، فصرخت صرخة أيقظت أهل المجرة، وربما أهل المجرات المجاروة أيضًا، وكانت اللحظات التي ذهبت فيها أمي لإحضار لمبة الجاز دهرًا طويلاً.
توسلت إليها ألا تتركني وأن تنام بجواري، فجلست واضعة يدها على رأسي وشرعت في قراءة المعوذتين مرة أخرى، قل أعوووو…
تثاءبت، وكانت في كل مرة تحاول قراءة المعوذتين كان التثاؤب يعود، وقبل أن يغلبها النعاس رجوتها أن تحكي لي “حدوتة” ، قالت والنوم قد أثقل لسانها: - أمري لله، أي حدوتة تريد
- احكي لي … حدوتة (أمنا الغولة)
- لا، ستخاف وكفاك ما جرى اليوم
- خلاص، أي حدوته
- اغمض عينيك
- آهو
كان يا مكان في سالف العصر والآوان ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام، كان هناك زوج وزوجة وبينهما حسام الدين ثمرة الحب التي نمت وترعرعت وبلغت عامها الخامس، فطاف عليهم طائف الدهر، فتغيرت الأحوال، وزارتهم امرأة من الجيران، كانت رسولة الحزن الأبدي، رسمت ملامح مستقبل الأسرة باللعنة ودم الحيض وثلاثة شياطين صغار، فاستوطن الحزن البيت الذي لم يعرف سوى السعادة، فاعتلت صحة الأم، وحير مرضها الأطباء والعرافين، ولم تشفها الأدوية ولا التمائم ولا الأحجبة.
كل ما يتذكره حسام الدين أنه كان يلعب في نهار أحد الأيام حين سمع صراخًا وعويلًا، فجرى إلى داخل الدار، ليجد جدته جالسة على الأرض تبكي وما إن رأته حتى احتضنته بشدة فاقت شدة بكائها، نظر حسام الدين إلى غرفة أمه وجد أباه خارجًا منها يكفكف دموعه محاولاً التماسك ثم أغلق الباب من خلفه، بعدها لم يرى أمه ثانية.
- أمي، أين ذهبت أم حسام الدين؟
- ذهبت إلى الرياض الفسيحة حيث الثمار الوفيرة وأنهار العسل واللبن وحوريات مخلوقة من النور تحلق حولها.
- لا أفهم؟
- اصبر! وسوف تفهم
***
كان أبوه يتركه عند الجيران، ويأخذه عندما يعود، لكن الاستمرار هكذا كان مستحيلاً فهو رجل يحتاج إلى امرأة ولديه طفل يحتاج إلى رعاية، فذهب يومًا لزيارة أحد الجيران، وعاد بزوجة جديدة، وكانت صاحبة النصيب امرأة دهسها قطار الزواج عدة مرات فشوه ملامح وجهها قبل أن يفوتها، لكن الرجل كان يراها ست الحسن، أفروديت تجسدت في امرأة، ولم تكن في حاجة إلى مرآة تخبرها أنها أجمل امرأة في العالم، فهذه ليست حكاية “سنو وايت”، ولأنها زوجة الأب فكانت تعلم جيدًا ما عليها فعله، فكانت تعذب الابن في غياب الأب، وتتظاهر بالحنان أمامه، وكانت تجيد الضرب في الأماكن المخفية التي تؤلم ولاتظهر.
وكثر دم النفاث، والآه ، والآي، فأنجبا ولدًا والولد صار اثنين ثم ثلاثة، كانوا ثلاثة شياطين صغار ينغصون حياة حسام الدين، يحطمون ألعابه، ينجسون آثار أمه، يمحون أية ذكرى لها في البيت، أفسدوا عليه أحلامه، حتى أمانيه تحولت إلى كوابيس، بعدها شعرت زوجة الأب أنه يجب التخلص من ذلك الولد الغبي الذي يزاحم أطفالها في مأكلهم وملبسهم، ويشاركهم حب الأب.
فكان أن دست له السم -ذات مرة- في الطعام، لكن أحد شياطينها الصغار كاد يأكله بالخطأ، فتراجعت عن الفكرة، واستيقظ ذات ليلة ليجدها واقفة جوار سريره تتمتم:( باسم إبليس …قلخ ام رش نم … بقو اذإ قساغ رش نمو…).
***
كان الأب كلما جلس إلى مائدة الطعام لاحظ أن هناك مكانًا شاغرًا، فيقوم بعد أولاده يجدهم ثلاثة ولكن هل كانوا دائمًا ثلاثة؟!، وإن كانوا كذلك فلمن هذا المكان الشاغر، لماذا يشعر دائمًا أن هناك شيئًا كان موجودًا وفقد، وبين الحين والآخر يدخل الشقة عصفور يقف أمامه مباشرة، وكانت زوجة الأب تحاول الإمساك به، دونما جدوى فكان يكرر فعلته بشكل يومي، فأشارت على الزوج أن يشتري لها مصيدة عصافير، فوضعتها على المائدة أمام الأب مباشرة في المكان الذي يقف فيه العصفور.
وفي يوم نحس لم تطلع له شمس وقع العصفور في المصيدة، تمامًا مثلما وقع أبوه من قبل، فهمَّت أن تذبحة ولكن الأب رق له وأخذ السكين من يدها، وأجبرها أن تتركه وشأنه، وأفلته من يدها حتى طار غير بعيد منهما.
وفي منامه رأى العصفور يخبره أن يحضر كوب ماء ويقرأ عليه الفاتحة سبع مرات وآية الكرسي ثلاث مرات ثم يشرب منه.
وفي صبيحة اليوم التالي وبعد أن فعل ما قاله العصفور وشرب الماء المقروء عليه فزع من وجه تلك الدميمة الجالسة أمامه، وشياطينها الصغار، كأنه يراهم للمرة الأولى، فأمسك بها وأخذ يهزها بعنف:
أين ولدي، أين حسام الدين؟
***
نعم يا أمي أين حسام الدين؟
لكن لم يأتني رد، هززت يدها بعنف:
أمي أين حسام الدين؟
مع دورة الأيام واستمرار الحدوتة دون نهاية، وجدت أن الجالسة بجواري ليست أمي وإنما صاحبة الوجه الذي دهسه القطار عدة مرات فشوه ملامحه، ومازالت تردد تعزيمتها الملعونة: (قلخ ام رش نم بقو اذإ قساغ رش نمو)؛ لتظل زوجة الأب لعنة أبدية لا تنتهي.
تمت
سيد غلاب
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي