عندما تغني الجدران بين الواقع والخيال *
من العنوان نحلل ونحاول معرفة ما بداخل الرواية، ومن العنوان نلمح اللغة وتقنياتها السردية، وعوالمها الخفية، عبر رحلة ماتعة من الأحداث والشخصيات.
والجدران لا تغني، إنه المجاز والخيال، مجاز عن الفرح، وارتباط العنوان بمحتوى الرواية ارتباطًا عضويًّا، يسري مع النص، ويدور معه حيث دار.
والغناء ترديد الصوت بالشعر ونحوه بالألحان، والجدران هي الحوائط التي بلا روح، لكنها تغني مجازًا عن حال صاحبها الذي يعيش قصة خيالية نجا فيها من الموت على يد أسرة احتوته وصنعت منه فنانًا يليق باسمه أن يكون جميلاً (جمال)
الرواية سلسلة من الأحداث والشخصيات تعتمد على السرد والوصف والحوار والصراع.
والرواية من روى الشيء، أي حمله ونقله، ويحمل معنى الحكي (القص)
وتحمل معنى الانتقال من شخص لآخر.
فالرواية فن الحكي الجامع بين الحقيقة والخيال، تتكئ على اللغة، الشخصيات، الزمان، المكان، الأحداث، فهي قصة طويلة تشغل حيزًا أكبر، وزمنًا أطول.
فالرواية سرد يحمل في طياته شخصيات وأفعال وشاهد ومشهود.
عندما تغني الجدران للمبدعة: منى دوغان جمال الدين نجد كل هذا.
تدور أحداث الرواية في إيطاليا
حيث يسكن داني (الفرنسي الأصل) مع زوجته فيرونيكا (إيطالية الأصل)
وذات صباح وهم يجلسون على الشاطىء، ألقت لهم المياه طفلاً بعمر الزهور، يدعي (جمال).
داني فنان تشكيلي ورسام، وفيرونيكا نحاته، تعارفا في متحف اللوفر، وبرغم فرق السن بينهما وبُعد المسافة، إلا أن الحب جمع بينهما وترك داني باريس وذهب إلى إيطاليا وعاشا معا قصة حب، لم تتوج بإنجاب أطفال.
كان الطفل الخارج من أحضان البحر بمثابة أمل وفرح، وهدية من السماء.
تمسكا بالطفل وقاما معا بإعداده نفسيا، واتخاذ الإجراءات القانونية لتربيتة، حتى كبر وأصبح فنانًا ملء السمع والبصر.
الرواية تتطرق إلى أمور سياسية واجتماعية وتتناول موضوعات شتى:
- أولها قضية التهجير لأهل فلسطين وقضية المهاجرين الذين أتو إلى سواحل أوروبا بقوارب الموت وحلم الذهاب والهروب من جحيم الاحتلال.
لكن الكاتبة تناولت موضوع التهجير بطريقة مختلفة ومبتكرة، ألا وهي عدم البكاء على الأحوال والأطلال، و التوصيف والنقد والرد والدخول في عوالم التنظير.
وإنما عالجت المشكلة بالإيجاب عن طريق (تبني) الطفل (جمال) ورعايتة والاعتناء به حتى أصبح شابا وفنانا يبيع لوحاته ويعتمد على نفسه. - قضية وحدة الأديان والتعايش بلا حروب ولا صراعات، فجمال طفل فلسطيني من أب مسلم وأم يهودية، وداني علماني لا يؤمن بالأديان، وفيرونيكا مسيحية، لوحة فنية ترسمها المبدعة باقتدار.
- إبراز قضية تربية الأطفال عن طريق الاحتواء واللعب وتعليمهم شيئًا يفيدهم وإخراج مواهبهم منذ الصغر.
- الرواية ثقافية معلوماتية، تحمل معنى السياحة والتعريف بالمدن وشوارعها وكنائسها ومساجدها ومتاحفها، وأنواع الأطعمة خاصة إيطاليا وباريس.
وتحاول الكاتبة أن تدخلك إلى هذه الأماكن كأنك تراها رؤية العين. - تطرق الرواية إلى فكرة العائلة والترابط الأسري، وأنها اللبنة القوية في تماسك المجتمعات، وفي ضياع الأسرة ضياع للمجتمع.
- تدور أحداث الرواية في أوروبا من هنا جاءت أسماء الأماكن والأطعمة ربما غريبة بعض الشيء على من لم يطلع على أحوال الغرب أو كُتب له السفر إلى أوروبا، لكن الكاتبة نجحت بأسلوب سهل ومبسط أن تحكي تفاصيل كل شيء.
- التطرق للصراع العربي الإسرائيلي الدائم والمستمر منذ وعد بلفور حتى نكبة 48 و67 وصبرا وشاتيلا وحتى يومنا هذا وأحداث الرواية من عام 2008: 2018
- تلاحم الثقافات والحضارات من خلال الفنون وزيارات المتاحف، كاللوفر بباريس واستعراض التراث الإسلامي والروماني والعثماني.
ووصف ماتع لما يسمى (جدار الزمن) وهو عبارة عن لوحة من السيراميك يبلغ عرضها 12 مترًا، وشرح داني لجمال هذه الجدارية العثمانية المكونه من ثلاثة آلاف بلاطة من السيراميك، وتوصل العثمانيون إلى تقنية طلي السيراميك بألوان خاصة مميزة كاللون الأحمر لون الطماطم، وصعوبة خبزه على السيراميك. - الكاتبة: منى دوغان جمال الدين فنانة ترسم على البورسلين ولديها موهبة الرسم على الزجاج والسيراميك، ومن هنا نجد الرواية فيها كيفية تعليم بعض الأمور المتعلقة بفن الرسم، والوصف الدقيق لمعظم اللوحات والكنائس والمعابد والقباب إلخ.
- تتطرق الرواية لحلم العودة والحنين إلى الجذور من خلال ذهاب جمال الذي بعد أن أصبح شابا وفنانا إلى فلسطين للبحث عن أسرته.
- في الرواية جغرافيا وتاريخ لكثير من الأماكن والحروب والمباني،
كالتطرق إلى مدينة (سيتا ديللا بيفه) وتقع على سبعين كيلو متر غرب (بيروجيا) وهي عاصمة مقاطعة يطلق عليها الاسم ذاته، وعاصمة إقليم (أومبريا)
في الواقع، تحتل هذه المدينة موقعا مهيمنا على (فال دي شيانا) وبحيرة (تراسيمنيو) على حدود (أومبريا وتو سكانا)
هذه الأراضي احتلها اللومبارديون في نهاية القرن الثاني عشر، ثم أشرف على ( بيروجيا) من أجل السيطرة على (سيينا) منافستها. إيطاليا
وفي القرن الثالث عشر، أعطى فريدريك الثاني لهذه المدينة صفة النبلاء من خلال إضفاء شكل نسر على المدينة متحديا روما. - تتطرق الرواية لأعلام الفن في جميع أنحاء العالم وخاصة روما وباريس، وتذكر الاسم والموطن وبعض أعمال الفنان.
مثل: بيترو فاوتشي (إيطالي) كلود مونيه (فرنسي)
ومايكل آنجلو (إيطالي) - تناقش الرواية قضية تداخل الثقافات والانفتاح على الآخر، وفكرة الإنسانية الجامعة.
- لا تنسى الرواية غزة المقاومة وفكرة المقاومة والعروبة واسم جمال واضح أن الزعيم جمال عبد الناصر كان حاضرًا منذ البداية لأنه رائد القومية العربية بلا منازع، وإذا ما عرفنا أن الكاتبة ناصرية الهوى أدركنا ذلك منذ البداية.
- التطرق للأحداث الحالية في الوطن العربي أو مايسمى بالربيع العربي وأحداث سوريا التي بدأت سلمية وتحولت لتداخل الأقاليم والحرب بالوكالة والنهاية دمار سوريا.
- الحديث عن مخيمات اللاجئين ومعانتهم التي لا تقل عن معاناة شعب غزة.
- العالم لا يعرف إلا المصالح فلا يشغله سوريا أو فلسطين أو لبنان، وإنما تحركه المصلحة فلا مكان للأخلاق أو الضمير.
الرواية نجحت في الحديث عن فلسطين واستحضارها واستحضار القدس بشوارعها وكنائسها ومعالمها وأسماء المدن، وكيفية إيصال القضية الفلسطينية عن طريق الإعلام ورسم صورة واضحة لما يحدث دون قلب الحقائق. - النفس الشعري في لغة عذبة ولا غرو في ذلك فالكاتبة شاعرة وأديبة :
كيف أستطيع بريشتي المتواضعة، أن أصف مدينة القدس المقدسة، حيث تستقر النفس وتسرح بتأملاتك في سماء خاشعة، حيث العبق المميز للأرض الخصبة تسافر بك إلى كواليس ألف ليلة وليلة؟
كيف أنقل إلى مسمع الآخرين رنين الأجراس التي تمتزج بصدى آذان الجوامع وهمس المعابد إلخ - يصر جمال على عودته إلى القدس سيرا على الأقدام في أشارة إلى.
أن العودة إلى الجذور تحتاج إلى تضحية، وإبراز التناقض الواضح بين دول تنعم بالرفاهية والاستقرار الأمني وكيفية الوصول إليها بسهولة، ودول تفقد كل معاني الحياة، ويكون الوصول إليها شبه مستحيل.
وهو ما يسمى بالتضاد.
في الختام أبارك للمبدعة: منى دوغان جمال الدين وأشهد أنني غنيت مع الجدران وعشت في رحلة ماتعة بين روما وباريس والقدس.
_
*ناصر رمضان عبد
عضو اتحاد كتاب مصر
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي