(الغربة)
خمس وأربعون عاماً من الغربة، متنوعة المكان والزمان، ومختلفة الأشخاص والأوطان. تركتُ فيها أهلي ووطني قسراً وليس طوعاً.
كنت أعلم تماماً أن الغربة صعبة؛ فحب الوطن لا يوازيه حبُّ، ومع هذا كان لا بدَّ لي أن أجمع أقلامي وأرتب أوراقي وأجمع حاجاتي في حقيبتي وأطلق عناني للسفر، فبلاد الله واسعة.
غادرتك يا وطني الحبيب وأنت في قلبي، ودعتك وأنت دمٌ يسري في عروقي، أنت أهلي وحبي وخلاني، من أرضك تغذيت، ومن مائك شربت فكيف لي أن أدير ظهري إليك؟؟
تعددت الأسباب، وظل في ذهني قول علي بن أبي طالب – كرمَ اللهُ وجههُ – بأن الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة، وأرسلت الأماني تلوَ الأماني، لكن النتيجة ظلت دائماً…الحنين.
رفيقي على الدرب قصيدة عاشق يضطر للسفر معتذرا لمحبوبته قائلاً: (لولا الشقا يا زنبقة….. ما تطول عنك غيبتي).
غريبة أنت أيها الغربة؛ في وجهك الأمل، وفي ثناياك ألعنا، وفي جيدك الوحدة والقلق والأرق ووجع الحنين.
حنين الى الوطن الغالي، ورفقة الأهل، والأصحاب، والأصدقاء. حنين كحنين (أبو تمام) حين قال: كم منزلٍ في الأرضِ يألفهُ الفتى …. وحنينهُ أبداً لأول منزل.
حنين لمنزل فيهِ عبق الياسمين، وفيه صوت أبي ودعوات أمي ومزاح صديقاتي، حنان أختي.. شجار أخي، حنين لمنزل فيه طعم الحياة.
غريبة أنت أيها الغربة؛ كيف يصنع من السم الدواء، علمتني المعنى الحقيقي للألم، المعنى الحقيقي للكد والعمل، والمعنى الحقيقي للانتماء.
عملتني أن في الاغتراب تجديد، وفي الثقافة علم، وفي معرفة الشعوب حرية وارتقاء.
دروسا دفعت لها ثمنا باهظا من شقاء وحنين، و مازلت تأخذين ذكريات الغد والمكان.
أما أنا سأبقى، رغم الظروف، أحن لوطني كما تحن الطيور لأوكارها، وتبقى النفس تمنِّي النفس بيوم الرجوع، على أمل اللقاء.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي