سيدتي… أمي
منهكة أنا من صورتك المعلقة فوق رأسي كحارس يأبى أن ينام… منهكة من ترميم خطوط السنين التي عبرت بغفلة عني في وهج ملامحك بالأبيض والأسود. كثيرة هي خلايا جسدي التي تحمل توقيعك. أسمعهم يرددون على مسامعي كلما إرتكبت جزءاً من هفواتك الجميلة” الله يرحمك يا عفاف”. تعبت من إرث صبرك الذي لامس روح أيوب. مرهقة أنا من وحدة لا يؤنس وحشتها رائحة قهوتك عند الصباح. كلما زاد عمري سنة، وحينما أقف أمام المرآة، أراك في تفاصيل وجهي، وارتاب من لعبة المرايا في إيقاظ الأرواح. أتقنت مع الأيام لعبتك المفضلة ” الطبخ” وأصبحت أترقب التهاني في مجاراة ذوقك في تركيبة الطعام المفعمة بحب بدون شروط. برجوازية أناقتك رسمت ذكرياتي في فساتين لا تجيد إلا الحديث عنك، بعد أن غلفتها رائحة اللافندر العابق في الخزانة العريقة. معك تعرفت على نينا ريتشي وعطره الهادئ كصوتك Air du temps , ومعك تعرفت بإن في لبنان مصممي أزياء، إحترفوا تفصيل المقاييس وفق كل أنثى بعيداً عن زوبعة دور الأزياء. لا يعرف الكثيرون مهاراتك في رسم الباترون، وخياطة أرقى الأثواب.
كنت أحب أن تداعب عيناي شقاوتك في التغيير الدائم، والتي كنت تبتدعين وسائله بكل بساطة ودون أي تكلفة. كنت تعرفين حرية إمتلاك القرار النهائي بدون الإستقواء برجولة لا تشبهك… فأنت الأنثى التي لا تتخلى عن جمال دلالها الطبيعي.
لم تحمل في دربها الطويل والشائك كلمة إستسلام، قاهرة لكل التحديات بعزف على وتر الصبر والصمود الصامت الشامخ كصخرة الروشة. لم يهزمها مرض زوج بعد سنوات قليلة من الزواج. ولم تتراخ في إداء دور الراهبة في نذر حنانها على صغارها. مناضلة شرسة قبل الحرب وبعدها، نحتت بأناملها الطرية درب الجلجلة، تعمشق أداؤها على جدران الأمل، يوماً ببسمة سلسة وآخر بقهقهة تزلزل كآبتي. وقفت كأرزة صلبة عند القمة التي لا يراها أحد، فإن إنتزع الدهر منها سندها، حاربت عاصفته بإرادة الزباء في قلعتها. إستدركت لغة العصر، تعلمت قيادة سيارة الفولسفاغن البيضاء في شوارع بيروت، ودروب الجبال وكوع الكحالة. شربت من نبع العزيمة للبقاء تحت وابل الرصاص والقذائف، وتجذرت كدرعٍ واقٍ في مواسم الموت القاهر.
لم أقوى في الفترة الأولى من حياتي بإنتزاع شكواها، ألمها وحزنها. كنت أقرأ في كركرة نرجيلتها، قصصها المدفونة في دولاب أسرارها، ودوائر دخانها كانت ترسم لي أحلامها الكبيرة والصغيرة.
هذه المرأة الساكنة في الظلال، ثائرة حتى الرمق الأخير، مناضلة في الدفاع عن هويتها، عروبتها، لا تساوم في المبادئ ولا تنحاز للضلال… في المسيرات تجدها منتصبة القامة، وفي المظاهرات سيدة بلا منازع. لم تتوانى عن فتح دارها للنضال، بل دفعتنا للتحرر من عبودية الأنا والإنصهار بالعطاء من أجل ربيعٍ لن يتأخر.
سيدتي، أمي… دون سواها، تربعت زمناً زعيمة في ضفائري الحرة، أنشودة مطر خريفي عذب للأرض المرة…
سيدتي… أمي… دون سواها، ما عدت متعبة من هالتك المنيرة فقد أصبحتِ منذ أمدٍ نبراس دربي وإسمي والكثير من هويتي.
سمر دوغان
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي