ياسين الغماري والتجريب وارتحالات السرد في رواية خديعة الخديعة
المقالة للناقد العراقي : طالب عمران المعموري
الرواية رصد للحياة ، والحياة دائمة الحركة من هنا صار هاجس التحول الذي يسكن قلب المجتمع وهذا الواقع الذي يتغير بسرعة فائقة، ولعل الرواية من أهم الأجناس السردية التي شهدت مثل هذا التطور والشكل الأدبي الأنسب الذي يجاري هذا التحول الأكثر تكثيفا وتأقلما مع مظاهر التغير والتحول في بنية الرواية وتقنياتها وأشكالها السردية عن طريق تجاوز السائد والمألوف وخلخلة الثوابت، وان هذا التجاوز وخرق المألوف يتم عن طريق تجريب أشكال وطرائق عدة.. وهذا ما يلمسه المتلقي في رواية خديعة الخديعة للروائي التونسي ياسين الغماري في طبعتها الاولى الصادرة عن دار الدراويش للنشر والترجمة – بلوديف- بلغاريا، 2024. استهل روايته التي جاءت بتسلسل رقمي لفصولها 12 .
ما يتبادر الى ذهن القارئ من أفكار وهو يقرأ هذه العنونة ” خديعة الخديعة ” يتوقع القارئ رواية مليئة بالتشويق والغموض. واكتشاف أسرار معقدة وكشف خيوط المؤامرات.
وقد يتوقع مواجهة شخصيات مُحيرة ودوافع غامضة.
غموض وتشويق:
يُثير العنوان فضول القارئ حول ماهية “الخديعة” و “خديعة الخديعة”. يُحفز على التفكير والتأمل في طبيعة الخداع. يُطرح تساؤلات حول من هو الخادع ومن هو المخدوع، وما هي دوافعهم.
وقد يُشير إلى احتمال وجود مؤامرات أو مكائد معقدة. يضفي اجواء نفسية يُثير شعورًا بالقلق أو التوتر لدى القارئ.
ثنائية وصراع:
يُبرز العنوان ثنائية بين “الخديعة” و “خديعة الخديعة”.
يُشير إلى صراع بين قوى متعارضة، ربما بين الخير والشر، أو بين الحقيقة والوهم.
يُثير التساؤل حول من سينتصر في النهاية، الخادع أم المخدوع؟
رمزية ودلالات:
قد يحمل العنوان دلالات رمزية أعمق، مثل خداع النفس أو خداع الواقع.
وقد يُشير إلى صعوبة التمييز بين الحقيقة والزيف في عالم مليء بالخداع. وقد يُثير أسئلة فلسفية حول ماهية الواقع والمعرفة.
يُعد عنوان “خديعة الخديعة” عنوانًا قويًا ومثيرًا للاهتمام.
من خلال تفعيل أركان السرد من مكان وزمان وأحداث وشخصيات وعلاقتها وأنشطتها البشرية كما يقسمها فرويد الى ثلاثة:( اللعب ، التخيل ، والحلم ) فالإنسان يلعب طفلا ويتخيل مراهقا ويحلم أحلام يقظة أو نوم وهو في كل هذه الحالات يشكل عالما خاصا به وما اشبه، المبدع بالطفل الذي يلعب عندما يصنع عالما من خيال يصلح فيه من شأن العالم
نلمس ذلك من خلال التنويه والاهداء الذي ذكره الكاتب بعد عتبة العنوان
” هذه الرواية هي محض خيال ، أي تشابه في الواقع ، فهو محض صدفة ولكن الاحداث التي تدور بالمدرسة حقيقية ، عشتها أنا شخصياً.
أهدي الرواية الى زملاء دراستي الذين أصبحوا الآن نساءً ورجالاً”
اعتمد الروائي بعد العنونة تناصات على شكل اقتباس مباشر ذات دلالات تعبر عن ( الظلم /الشر/ الخوف ) والتي تعد أداة فعالة لإثراء روايته وخلق انطباعات متعددة لدى المتلقي مما يساهم في خلق تجربة قراءة غنية ومثرية ويتضح انه كاتبا يمتلك، إلى جانب موهبته الابداعية، ثقافة موسوعية ويظهر مقدرته في استحضار النصوص من مصادر مختلفة ويضفي على روايته عمقا ً ثقافيا .
“أغلب الناس عند السلطة يصيرون أشرارًا.
أفلاطون
أكبر شر عدا الظلم هو أن لا يدفع الظالم ثمن ظلم
أفلاطون
قلوبهم معنا وقنابلهم علينا
أحلام مستغانمي
كانوا يتوارثون الخوف أبا عن جد، كان الخوف يبدأ بولادتهم ولا ينتهي إلا مع موتهم، ولذلك كانوا يطلقون على هذا الخوف اسم الحياة.
نیکوس کازانتزاکیس”
ومن ابرز مظاهر التجريب الذي نهجه الروائي حضور الميتا سرد في روايته (خديعة الخديعة) بلغة فصيحة شيقة تتناسب مع وعي وثقافة قائلها .
ابتكر الروائي عوالم متخيلة وعلى لسان الراوي العليم بتقنيات تيار الوعي وآليات فنية مستحدثة والاشتغال على الانزياحات اللغوية (التجريب)نوع من اللعب الذي يمارسه الروائي وضرب من المشاكسة والمباغتة .
افتتحت الرواية بالزمن السردي (زمن الرواية ) واختتم الرواية بهامش ذاكرا بدء بزمن تدوين كتابة الرواية وزمن انتهاءها، بضمير المتكلم سارد عليم وبسرد تتابعي والذي تمكن من رصد جملة العادات والممارسات الجنسية الشاذة التي تنطوي على أمراض نفسية من كبت وتلذذ بألم الاخرين (سادية)الذي ينقلها لنا بصورة مباشرة وغير مباشرة بالإيحاءات والايماءات بسبب التغيرات التي طرأت على المجتمع سواء أفرادا وجماعات بسبب الضغط والكبت النفسي الناجم عن سياسة السلطات الشمولية :
“يوم الخميس لم تشهد «رنين» تعبا من قبل، بكم ما تحسه الآن عندما تعذر عليها الحصول على ما تصبو إليه.”
التقنيات الفنية في بناء الرواية النفسية
اعتمد الروائي في روايته ذات الطابع النفسي الغرائبي على تقنيات فنية خاصة لبناء عالمها الداخلي المُعقد وكشف صراعات الشخصيات النفسية.
ومن أهم هذه التقنيات التي وظفها في رواية خديعة الخديعة :
تيار الوعي:
استخدام تقنية تيار الوعي الذي يُتيح للروائي الغوص في أعماق عقل الشخصية وكشف أفكارها ومشاعرها دون قيود.
تُستخدم هذه التقنية من خلال كتابة أفكار الشخصية الداخلية دون تمييز بين الأفكار الواقعية والخيالية، مما يُساعد القارئ على فهم عالمها الداخلي بشكل أوضح.
التداعي:
ربط الأفكار ببعضها البعض بشكل غير متوقع الذي يُساعد على كشف العلاقات الخفية بين الأفكار والمشاعر في عقل الشخصية.
يُستخدم التداعي من خلال الانتقال من فكرة إلى أخرى دون وجود رابط منطقي واضح، مما يُخلق شعورًا بالغموض ويُثير فضول القارئ.
اللغة:
تُعد اللغة أداة أساسية في بناء الرواية النفسية، حيث تُستخدم للتعبير عن مشاعر الشخصية وأفكارها وحالتها النفسية.
اختيار الكلمات بعناية ودقة، واستخدام الأسلوب المناسب لخلق التأثير المطلوب. أروقة النفس/ السيطرة على النفس /الطب النفساني /خروم النفس /أمراض النفس / المداواة النفسية / أهواء النفس / ماهيات النفس
لا تقتصر الرواية النفسية على استخدام تقنية واحدة فقط، بل غالبًا ما تُستخدم مجموعة من هذه التقنيات معًا لخلق رواية متكاملة ومتماسكة.
ومن خلال توظيف تلك التقنيات يتبين لنا مهارة الروائي في استخدام هذه التقنيات هي التي تُحدد مدى نجاحه في بناء رواية نفسية مُقنعة ومؤثرة.
فضلا عن تقنيات آخرى اعتمدها الروائي :
الحوار: استخدم الحوار لكشف أفكار الشخصيات وعلاقاتها ببعضها البعض كما في الحوارية :
باغتها بالسؤال
” ما سنك؟
“وما شأنك؟”
“الاطفال وحدهم لا يفتحون الباب للغرباء “
“أبلغ من العمر واحداً وعشرين عاماً”
“كبيرة بما يكفي للتحدث مع الغرباء ” ص11
استخدم الروائي الوصف والحبكة القصصية لخلق صورة حية لعالم الرواية والشخصيات لخلق صراع وتوتر يُحرك الأحداث ويُثير اهتمام القارئ
“رأت رجُلا في مقتبل الثلاثينات من عمره. يتشح بالوقار والنبل. يتسربل بطقم أزرق ومعطف أسود طويل. حسبت للوهلة الأولى أنه ضائع. كدأب الغرباء ” ص٧
الغرائبية في السرد
تمكن الروائي من إضافة عنصر السرد الغرائبي إلى بنية النص الذي يحاكي الواقع الذي يمكن أن يخلق توازناً مثيراً بين الواقعية والخيال ، توظيف العناصر الخيالية مثل السحر والأشباح والكائنات الغريبة،
استخدام أحداث غير مألوفة والبنى الكابوسية والتي تتحدى المنطق العادي لإيجاد جو من الغموض والإثارة، والتأثير النفسي على القارئ..
“الأرض تنتفخ من تحت مرتقب». انفجر الماء کرشاش دموي. أحسَّ بتصلّب عاتٍ. في مكانه يمكث هو لا يتحرّك. اعترته دعوة واجبة إلى التقيؤ، عجيج السّاحة الذي يمتد من مكان يجهله ويصل إليه. جمر جهنم يغلي في جوفه. تلّفت من وقت لآخر وعضلاته مشدودة. في طريقه – على الضّد قُدُمًا – إلى قاعة الدّرس اعترضته مُجسّمات سوداء. اختلطت كومة من خفايا الأمور المروعة. والرّؤى المفزعة التي هاجمته أثناء خطواته الحثيثة من الدواليب إلى القسم. تجلى أن شيئًا ثقيلا جاثمًا عليه كالقصاص”ص52
البعد النفسي
يطرح الروائي في روايته (خديعة الخديعة ) العديد من المشاكل النفسية وحلولها ، علاجها واعراضها بأسلوب سردي يحاول ان يتجنب الاسلوب التقريري، مثل الشخصية التي تعاني الكبت الجنسي كما في البنية السردية :”رجل يجد القمع لشرح وجهة نظره داخل عائلته يتحوّل إلى السعار الجنسي من أجل إفراغ قمعه. رجل يمارس سلطته من خلال الكبت والاستبداد وتجويع غيره بكم ما يكون الجوع الجنسي في ذاتيته” ص٦٠
والشخصية الروائية التي تعاني الوسواس القهري شخصية (مرتقب): ” يقاسي (مرتقب) من عُطل في الدماغ ، فقد انضم بعاطفته داخل محيطه بشراهة ، قل اهتمامه بنفسه ويمزّق بنفسه على وتيرة واحدة .هجر انشطته الدراسية وهو يعجز عن فهمها بحرقة ، غير قادر على تتمة أي حوار يبدؤوه..” ص106 ومن ثمة يعرض لنا الروائي تأثير الوسواس القهري على الشخصية الروائية:
قد تُعاني الشخصية الروائية من شعور بالذنب والخجل بسبب أفكارها وسلوكياتها الوسواسية، مما يُؤثر على ثقتها بنفسها وعلاقاتها بالآخرين.
و قد تُفضل الشخصية الروائية المصابة العزلة الاجتماعية لتجنب التعرض لمواقف تُثير أفكارها الوسواسية، مما يُؤدي إلى شعورها بالوحدة والاكتئاب.
تُواجه الشخصية الروائية صعوبة في التركيز على الدراسة أو العمل بسبب الأفكار الوسواسية، مما يُؤثر على أدائها.
تلعب الشخصية الروائية التي تعاني الوسواس القهري دورًا هامًا في السرد، حيث تُجسّد صراعًا داخليًا عميقًا وتُثير تعاطف القارئ. من خلال تحليل أفكارها وسلوكياتها وعلاقاتها، يُمكننا فهم تعقيدات هذا الاضطراب النفسي بشكل أفضل.
” اخذه السيد ” وزير” الى طبيبه النفسي الذي بت في حالته واثبت أن اضطراب الوسواس القهري وعدة اضطرابات نفسية قد يطول أمدها في وقت لاحق ، بما في ذلك الذهان .ص 107
الشخصية السادية في السرد الراوئي
تلعب الشخصية السادية دورًا مركبًا وجذابًا في السرد الروائي، حيث تجسد تناقضات النفس البشرية وتستكشف دوافعها المعقدة. الشخصية السادية هي تلك التي تستمد المتعة من إلحاق الألم أو المعاناة بالآخرين. يعرض لنا الكاتب هذه الشخصية مع الدوافع تلك الشخصية :
” ما كان في مستطاع السيّد ” وزير” أن يفرغ حمولة غضبه سوى باصطياد فتاة ليل أخرى. ثمّ سقط بين الطرقات على واحدة تتهادى في سيرها . اندلعت رغبة مضطرمة تصدح بنباح شرير كمخالب أسد هائج واكتنف جسدها. يسعى للنظر في عينيها ويهرع ليثقب الصراخ الحارق. تتشنج فتاة الليل فوق السرير الوافر. تصرخ اتركني . فلا يتركها ” ص58
: يُجسّد الروائي (وزير) شخصية سادية مُعقدة، حيث يُعاني من هوس شديد بالرائحة ويُقدم على قتل الفتيات للحصول على رائحتهن المثالية.
الشعور بالقوة والسيطرة قد يلجأ بعض الساديين إلى إيذاء الآخرين لتعزيز شعورهم بالقوة والسيطرة على حياتهم، خاصةً إذا عانوا من الشعور بالعجز أو الضعف في الماضي.
قد يستخدم الساديون العنف لإخفاء مشاعر عدم الأمان أو تدني احترام الذات، حيث يجدون في إيذاء الآخرين تأكيدًا على تفوقهم.
وظف الروائي الشخصية السادية في السرد لأغراضٍ متعددة، منها:
خلق صراع وتوتر حيث تُشكل الشخصية السادية مصدرًا هامًا للصراع والتوتّر في القصة، حيث تُهدد سلامة ورفاهية الشخصيات الأخرى. تُساعد الشخصية السادية على استكشاف جوانب مظلمة من النفس البشرية، مثل الميل للعنف والعدوانية.
وهذا ما يدفع لإثارة المشاعر لدى القارئ حيث تُثير الشخصية السادية مشاعر قوية لدى القارئ، مثل الخوف والاشمئزاز والشفقة، مما يُساهم في تعزيز جاذبية السرد.
تُعد الشخصية السادية عنصرًا هامًا في السرد الروائي، حيث تُساهم في خلق قصص مُثيرة وجذابة. من خلال تحليل سلوكياتها ودوافعها وعلاقاتها، يُمكننا فهم تعقيدات النفس البشرية بشكل أفضل.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي