أهل المكان
بقلم : بلقيس بابو
▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎
لم تصدِّق يوما ما تُروِّج له بعض جاراتها من زعم سخيف بشأن المنزل الذي اشترته وجهزته بأثاث يستجيب لذوقها بإحدى ضواحي العاصمة لتكون قريبة من مقر العمل، و كيف تصدق الخرافات وهي التي بلغت من التعليم مراتبَ عُليا، وقضت جل حياتِها في بيئة مليئة بالعلم والثقافة والأدب وخريجة أشهر الكليات والمعاهد الغربية في تخصص علمي دقيق.
لقد علمتها دراستها الحافلة بالبحث وبالتجارب العملية الدقيقة ألا تصدق إلا ما يقبله المنطقي السليم و التفكير العلمي المحض.
كلما صادفت جارة من جارتها تخبرها بأن أصواتا غريبة مرعبة تصدر من بيتها ليلا؛ فتكتفي بابتسامة ساخرة و تُتمتم :
-“لن نتطور كبقية الأمم المتحضرة مادام فينا من يصدقون ما لايقبله العقل السليم!”.
لذلك كانت تتحاشى إطالة الحديث مع هؤلاء النسوة اللائي و تُفضِّل أن تأوي مساء إلى منزلها مباشرة لترتاح من مشقة العمل بمعهد للبحث العلمي.
لقد وجدت راحتها هنا في هذه المنزل بهذا الحي الهادئ النظيف الذي جل سكانه من الموظفين ،
لقد اقتنته بعد بحث مضن بسبب غلاء العقار و كثرة المضاربات، ودفعت ثمنا باهضا لاصلاحه فضلا عن أتعاب السماسرة.
لم تكترث يوما للشكاوى التي تصلها عبر الحارس الليلي لكثرة ما سألها كل صباح كيف استطاعت أن تنام نوما طبيعيا وهي امرأة تعيشُ بمفردها، مع أن بعض من سبقوها كانوا رجالا، و مع ذلك فرّوا خائفين كالأرانب الفزِعة ممَّا سمعوه ليلا؟”
لم تستغرب من كلامه ولم تعر نظرات السكان المريبة اهتماما كلما صادفت أحدهم صباحا أو مساء عند عودتها.
لكن ما بدأ يشغلها حقّا هذه الأيام، هو كثرة الاستيقاظ ليلا رغم تعبها الشديد من العمل، بدأت تتساءل عن مصدر نداء متقطع تسمعه في فترات من الليل، قد يكون مجرد آهات جار مريض يقاوم الألم أو عربدَةَ سِكِّير يعود إلى بيته في جوف الليل؛ لكن الصوت أخذ يرتفع مع توالي الأيام خاصة بعد منتصف الليل، و أصبحت من جراء هذا النوم المتقطع تستيقظ منهكةَ العضلات، منهارة القوى كمن أنهى لِتَوِّه سباق عدْوٍ ريفي ، حتى أن زملاءها في العمل، بدأوا يلاحظون صُفرة تعلو وجهها، وتراخيا في إنجاز مهماتها في الوقت المناسب.
لم تكن هكذا أبدا هي المشهود لها بنشاطها وحيويتها.
لكن الأمر بدأ يتحول إلى حالة مقلقة،استشارت من أجل ذلك عدة أطباء، كانت كل الاختبارات جيدة ولم يكن بها أي داء، وصفوا لها الكثير من الفيتامينات والمكملات الغذائية لكن دون جدوى.
مرت أشهر، على هذا النحو، وذات ليلة رجعت إلى المنزل مساءً؛ و بعد أن تناولت وجبة سريعة تركت الصحون وبقايا الطعام على الطاولة، ونظفت أسنانها وعيناها تقاومان النعاس، ثم ارتمت فوق السرير وكلها أمل في أن تغط في نوم عميق.
قفزت فجأة، وكأن الصوت يصِلُها من مكان غير بعيد، أخذت تضع أذنها على الجدران وهي تتحسس مصدر الصوت ونوعه، وما إن ترفع رأسها لتعود إلى سريرها حتى تسمعه من جديد، صوت غليظ كأنه خليط من نداء و نواح.
استعاذت بالله من الشيطان الرجيم، و هي تسند رأسها على مخدة وتضع أخرى صغيرة فوق أذنها كي لا تسمع.
و ما إن هدأت قليلا، حتى وصلها النداء أقوى وأوضح، قفزت مرعوبة، خيِّل إليها أن الجدران تهتز من حولها، ارتفع نبضها وبدأ العرق يتصبب من جبينها، أضاءت الغرفة الثانية، و المطبخ، ثم دفعت باب الحمام ببطء وهي ترتعد وتتساءل:
-“أيمكن أن أصدق هذا؟ لا ،لا يمكن…”
نزلَتْ في الصّباح، متوترة ؛ تحس بدوار شديد و بثقل رأسها، وقفت قريبا من الحارس، فكرت في أن تسأله لتتأكد من مصدر الصوت، لكنها ترددت خشية أن تعرض نفسها للسخرية من إنسان أمِّي، لاحظت أنه يرمقها ببسمة هازئة.
تكرّر الأمر مساءً حين اكتفت بشرب كأس من الحليب ثم نامت.
فإذا بالصوت الخشن يناديها فجأة من جديد:
-“اخرجوا، اخرجوا ، البيت لنا !”.
قفزت من السرير، احتارت أتبكي أم تصرخ و تستغيث، فضلت أن تسأل لعل صاحب الصوت يسمعها فيجيب:
-“من أنت؟ ومن أين تنادي؟ ومن تعنيهم باخرجوا؟؟” ..
انتظرت مطولا، فلم تسمع ردًّا، و ما إن وضعت رأسها على الوسادة حتى صاح الصوت الخشن بشكل أوضح :
-“هذا مسكننا… سنطردكم!”
هرعت نحو الباب،فتحته واندفعت مهرولة تبحث عن الحارس، لم تنتبه أنها بلباس النوم الكاشف،
-“استري جسدك سيدتي، لاحول ولاقوة الابالله العلي العظيم، كنت أتوقع أن هذا يحصل، لماذا لا تصدقون من يقدم لكم النصح”..
قالها وهو يحوقل ويبسمل، ويدير رأسه مستحييا.
-“ماذا عساي أفعل؟
تلعثم الحارس وأخبرها أنه لا يعرف شيئا، ألحت عليه في السؤال، فأخبرها أن من سبقها من مالكي هذا المنزل اللعين كان يستقدم أحدا إليها كلما كثرت تلك الأحداث الغريبة.
طلبت منه أن يدلها عليه، لكنه ارتبك لمعرفته بها وأنها سوف تسخر مما يقوله، لكنها ألحت ثانية فأخبرها أن الشخص الذي
كانوا يستقدمونه هو شيخ متفقه في الغيبيات، وقورٌ؛ يقصده الناس في مثل هذه الظواهر المستعصية، له طقوسه الخاصة وشروطه الصارمة.
نظرت إليه نظرة ازدراء وتوجهت إلى المصعد و قالت دون أن تلتفت إليه:
-“أحضره غدا مساءً!”.
دخل الشيخ وهو يتمتم بكلمات وتعابير غريبة، انزوى في إحدى الغرف مشترطا ألا يتبعه أحد؛ كان كلما صعد من وتيرة كلماته تصاعد الصراخ، استمر على هذا الحال حوالي نصف ساعة ليعم الصمت و يرجع الهدوء إلى الشقة حين بدا الشيخ قادما من الغرفة.
أخذها من يدها وهي ترتعش ليدعوها إلى الجلوس هادئة وأن تبسمل ثلاثا قبل أن يضيف محذّرا:
-” يا ابنتي إنك تتقاسمين شقتك مع أشخاص من عالم آخر، لقد عانى من ذلك كل من سبقك هنا، بعضهم أصيب بأزمات نفسية واضطرابات عقلية فغادر الشقة مكرها لأنها مِلْكٌ ل”أهلِ المَكَان”.
كان حارس العمارة يحرك رأسه ايجابا كي يزكي كلام الشيخ، و قال معبرا عن تعاطف معها :
-“سوف أساعدك في ايجاد مشترٍ في أقرب وقت” .
نظرت إليهما وطأطأت رأسها مجيبة :
-“حسنا، سأفعل ما يطلبه ” أهل المكان”.
رمقتهما حين تبادل الشيخ و الحارس ابتسامة رضًى خاطفة ، ودّعتهُما و أقفلت الباب. قضت ليلة هادئة على غير العادة، و غادرت إلى عملها في الصباح الباكر ، اتصلت بإحدى صديقاتها المقربات التي تشتغل بالشرطة العلمية، وحكت لها كل ما حدث طالبة منها إرشادها إلى الكشف عن حقيقة المؤامرة التي يحيكها الحارس و الشيخ المزعوم.
فطمأنتها و هي ترشدها إلى الإجراءات المسطرية التي ستقوم بها ، مؤكدة لها بأن عمل الشرطة في حالات مثل هذه يتَّسِم بالسِّرية التامة للايقاع بمدبّري هذه الأحداث و كل من تواطأ معهما بعد تجميع كل الأدلة الضرورية.
من يومها دأبت صديقتها وشابان مرافقان لها على زيارتها على أنهم أصدقاء يسهرون إلى ما بعد منتصف الليل، وهم يقضون ساعات من البحث والتنقيب.
وكلما طالت مدة البحث زاد توترها وأصبحت تخشى أن تضطر إلى بيع المنزل.
توقف الفريق لحظة، تهامس أفراده بكلام خفي في ما بينهم، قبل أن يستأذنوها لينفردوا بأنفسهم في الغرفة التى كان “الشيخ ” قد ولجها.
انتظرت بصبر قبل أن تخرج صديقتها مبتسمة :
-“وأخيرا اكتشفنا المؤامرة يا صديقتي!”
أخذتها من يدها ثم أشارت إلى قطعة زليج :
-“السر هنا وراء تلك الخيوط الكهربائية التي تتصل بأجهزة صوتية في الشرفة الخلفية للمنزل!”
و ألحت عليها ألا تخبر أحدا، حتى المقربين من أصدقائها قبل إلقاء القبض على أفراد العصابة. عانقت صديقتها بحرارة وتنفسّت الصعداء ، وكأن حملا كبيرا قد انزاح عن ظهرها.
مرّت بضعُ أسابيع و هي تماطل الحارس بشأن بعض المشترين بحجة الثمن البخس الذي يقدمونه .
و في يوم ربيعي ، صبيحة عطلتها الأسبوعية و هي ترتشف ما تبقى من فنجان القهوة بفضاء شاطئيٍّ هادئ، قلبت الصفحة الثانية من الجريدة اليومية التي دأبت على قراءتها، و إذا بها تفتح عينيها مندهشة وهي تقرأ عنوانا عريضا:
(الشرطة تلقي القبض على عصابة تتاجر في العقار عبر النصب على المالكين الجدد).
ياسين الغماري يكشف عن خيوط الخديعة في رواية خديعة الخديعة
لقد جُن العالم. حَكَت لها السيّدة كما لو أنّ الجدّة تحكي حكاية خُرافيّة-أنّ الجميع عاشوا ساعة الفضل في قديم الزمان....
اقرأ المزيد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي