في “أطلس امرأة برية” فرات إسبر تلامس روح المرأة في علاقتها مع الزمن
سلوى عباس
في مجموعتها الجديدة “أطلس امرأة برية” الصادرة عن دار التكوين للترجمة والنشر بدمشق وضمن سلسلة “إشراقات” الشعرية التي يشرف عليها الشاعر أدونيس، لم تبتعد الشاعرة السورية فرات إسبر في خطابها عن مجموعاتها السابقة، إذ حافظت على أسلوبها السلس ولغتها الشفيفة التي رسمت تفاصيل تجربة شعرية نابضة بالحيوية والقدرة على الإبداع، في محاولة دؤوبة للاكتشاف وإثارة الأسئلة التي تطرحها على نفسها أولاً، ومن ثم على المحيط، وهذه مهمة المبدع، لما تحمله هذه الأسئلة من دلالات معرفية وعمق صوفي، كما تحافظ في قصائدها هذه على تميز صوتها الشعري بنكهته الخاصة ومن قصيدة “أطلس امرأة برية” التي حملت عنوان المجموعة نقرأ:
“في حياة تؤنث/تقول امرأة نذرت نفسها للماء: أكتب الشعر ليطمئن قلبي/ أطوف في أطلس امرأة برية/ كما يطوف الحاج ببيت الله/ ولا أجد ظلاً لحياة”
منذ إصدارها لمجموعتها الأولى “مثل الماء لا يمكن كسرها” مروراً بالمجموعات التي تلتها وصولاً إلى مجموعتها التي بين أيدينا، لازالت فرات تحمل البريق نفسه الذي حملته في بداياتها، بل إن شعرها لازال ينبض بالتجدد والتوهج، الأمر الذي كان له أهميته الكبيرة في عملها بشكل أكبر على تعميق معرفتها بأدواتها الشعرية، كما انفتحت أكثر على التجارب الشعرية في العالم، لتعيش في مناخات نفسية خاصة جعلتها تميل أكثر إلى نوع من استبطان الذات، واستبطان العالم الداخلي للشاعر، في قصيدة “العابر في ثياب الله” تقول:
“مهووسة بالنذور/أغني/ أرقصُ/ أدور/ مثل الدراويش في حانة الله/ أسميه في أعاليه/ كما أسمي قصائدي بأجمل الأسماء”.
وتؤكد صاحبة “خدعة الغامض” أن على الشاعر أن يكون مختزناً لكل ما أنجزه العقل البشري من خبرات جمالية ومعرفية وعلوم ورؤى فكرية وفلسفية للحياة، من هنا كان لابد لشاعرتنا المتميزة بصوتها الشعري من أن تختبر جميع هذه الأدوات وهذه المقولات لخدمة مشروعها الشعري أولاً وأخيراً، لأن المهمة الحقيقية للشعر في كل زمان ومكان كما تراها فرات عبر تجربتها هي أن يستمر بتبشيرنا بالقدرة على الخلاص، وعلى التجدد والولادة الجديدة، وأن ما يختلف أحياناً هو طريقة حمل القصيدة لهذه الوظيفة، فهناك أشكال لانهائية يمكن أن يبتدعها الشعر من أجل حمل هذه الرؤية للمتلقين أو القراء، وضمن هذه الأشكال قد يتم توظيف إنجازات جمالية قديمة ومعروفة في إطار جديد، من خلال تفاعل الشعر مع مجموعة من الرؤى والمعطيات الجمالية الجديدة لإنجاز عمل فني جديد، ومن قصيدة “حيوان ناطق” نقتطف: “حاولت أن أمسك أذن الشمس لأقرأ شعراً لها/ لكنها ذابت ونسيت خلفها شاعرة/ كانت قد سبقتها إلى نهر الأصيل/ الشعر يحوّل المرأة إلى ندى أو غياب/ غداً ستفيض الأنهار عن امرأة شاعرة”.
تتألق الصورة الشعرية لدى شاعرتنا حيث نقرأ هذا التفاعل المتبادل بينها وبين المتلقي للأفكار والحواس من خلال قدرتها على التعبير عن هذا التفاعل بلغة شعرية تستند إلى المجاز والاستعارة والتشبيه والوزن والقافية والإيقاع والإيحاء واللغة والموسيقا وغيرها، والصورة الشعرية لدى فرات هي وليدة خيالها وأفكارها، هذا الخيال الذي يتيح لها الدخول خلف الأشياء واستخراج أبعاد المعنى، لتخرج ما في قلبها وعقلها لتشارك المتلقي بأفكارها، وفي قصيدتها “الأجساد كتب تغطيها الأثواب” تقول:
“أنا والزمان لا ألفة بيننا/ هو يكتب لغته/ وأنا أقرأ بصماته /وبين غيمة وغيمة/ وبين رماد ورماد /أرى خطوطاً على جسدي/ أتخيلها بداية الحياة”، لتصل إلى القول: “كبرت في العمر/ حذاء الزمن ازداد ضيقاً على قدميّ/ السماء تفتح ذراعيها/ أرى حضناً واسعاً/ نصفه في الأرض/ ونصفه الآخر في السماء”.
ولأن لكل مسمى من اسمه نصيب كذلك لشعر فرات من اسمها كل النصيب حيث تتكرر مفردة “الماء” في مجموعاتها كلها، وهذه المجموعة تتضمن أكثر من قصيدة يمثل الماء نسغها وجوهرها كـ: “سر الماء، نذور الماء، أشجار صامتة، كما يمر الماء من فم الحجر، ساقية، زهرة الماء الأخيرة، ومن قصيدة “نذور الماء” نقرأ: “كل يوم أقيم جنازتي/ أغسل جثتي بالماء/ وأعطرها بمسك العرب/ أقرأ عليها: “والشعراء يتبعهم الغاوون”/ وقبل الوداع الأخير: من الرأس إلى القدم أمدُّ الثوب الأبيض الطويل/ وأقول يا الله: اغسلني بالشعر والبَرَد/ قصائدي مبتلة بالماء/ وأنهار حياتي تفيض بالنذور”.
وفي قراءة فلسفية لمعنى الماء الذي هو أصل الخلق تحدثنا في قصيدة: “أشجار صامتة” عن هذه الرؤية الفلسفية فتقول: “العطش تعرفه الحقول والنساء، تعرفه الراهبات في قداسة الجسد/ و”جعلنا من الماء كل شيء حيّ”، ومن هنا تنبع مرارات الماء”.
وتحضر في تجربة فرات تساؤلات حول الموت ومعناه وحول الظلم البشري وعلاقة الإنسان بافتعال الموت ولعل ما يحصل في منطقتنا من خراب وموت يجيب في بعض ملامحه عن تلك التساؤلات، وفي قصيدة “أعلم أني سأموت” نقرأ: “أعلم أنني سأموت/ لذلك قررت أن أكتب كل يوم قصيدة/ يفوح العطر منها/ وتطير الفراشات/ الكلمة تتحول إلى شجرة/ ليقطف كل واحد منكم كلمة/ ويزرعها على قبري/ غداً عندما أموت/ كلماتي ستكون جواهري/ لا إرث لي سواها”.
هناك من يقول: إذا تصوفت اللغة تصوّف معناها وإذا تصوف معناها كان صاحبها متصوفا ً وفي أعمال فرات إسبر نقرأ حالة من الصوفية تحمل منظوراً جديداً للحياة، يحاول أن يستبطن الأسرار الوجودية الكامنة وراء الحياة ووراء الموت، ليس بالمعنى الديني الذي يحيل هذه المسائل إلى أمور غيبية وميتافيزيقية، ولكن بمعنى تأسيس نوع من الخلاص للجنس البشري، والجوهر الإنساني من خلال المزاوجة بين الحياة والموت، باعتبارهما وجهان للوجود البشري نفسه ضمن رؤية تأخذ طابعاً رؤيوياً إشراقياً فلسفياً شعرياً بعيداً بشكل ما عن ما اصطلح على تسميته بالرؤية الدينية للصوفية، في قصيدة “موانىء الزمن”: “على ظهر ناقة/ وبين كثبان الرمل/ مرت مواكب الشمس على بلاد تقرأ الفاتحة/ وفي حقول الله/ نجوم تضيء الظلام/ أصابع الحكمة تعجن بالزيت جسد أوغاريت/ وبالحروف الأبجدية تنقش نجوماً تلمع/ نساء في عشاء البهجة/ يتحدثن عن الصياد الهارب من قبضة الزمن/ والمرأة التي ملّحت البحر”.
وفي القصيدة ذاتها تشير إلى تعاقب الحضارات السورية عبر التاريخ تلك الحضارات الشاهدة على عظمة هذا التاريخ فتقول: “الجسد مشغول بالجمال/ كل حبكة فيه تعلن ولاءها/ للسفر في موانئ الزمن/ وكل زمن يشهق على صدر أخيه الزمن/ وتبقى أوغاريت بأحجارها/ تزين الأرض/ النسور تطير فوقها/ حجر الشمس يحكُّ ظهرها/ ونساء عاريات يتناوبن على تقديم القرابين/ كل قربان حكاية/ وكل امرأة بذرة في الأرض”.
ولأن حساسية الشاعر تجاه الوطن وقضايا إنسانه تختلف في حالاتها كانت حالة الخراب التي تعانيها منطقتنا العربية تؤرق شاعرتنا إذ نراها تعبر عن صدى أوجاعها مما يحصل عبر أكثر من قصيدة تضمنتها المجموعة فتقول في قصيدة “الفضيلة تعرف معنى العطش” نتوقف عند هذا المقطع: “كيف لنا أن نطمئن في هذه الأرض التي سُيجت بالتعاويذ/ كيف لنا أن نفك أسرار السماء/ أو نفتح في الأرض ثقباً كي نرى ما نؤول إليه؟/ الفضيلة تعرف معنى العطش/ والبراءة الأولى لم يعد لها شبيه في هذا الزمان”.
هكذا تتجلى الشاعرة فرات إسبر في مجموعتها “أطلس امرأة برية”، امرأة من شغف وشعر فُطرت على عشقه منذ أن لامست خيوط الشمس عينيها ليكون رسالتها في وجه الخراب الذي عمَّ العالم، وشوه معالم الحياة.
ياسين الغماري يكشف عن خيوط الخديعة في رواية خديعة الخديعة
لقد جُن العالم. حَكَت لها السيّدة كما لو أنّ الجدّة تحكي حكاية خُرافيّة-أنّ الجميع عاشوا ساعة الفضل في قديم الزمان....
اقرأ المزيد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي