كانت إحدى أسوأ مهامها المنزليّة-الّتي تُصيبها بالكآبة-حلق ذقنه. كل ما كانت تقوله أن يجلس ثابتًا لَئِلّا يحدث شقّ في وجهه. وهل لها أن تستمرّ؟ لقد تحدّثا عن ذلك من قبل. لا يجب أن يدوم هذا طويلًا وإلّا ستفقد أعصابها. لديها سكّين كبير وتُفكرّ أحيانًا في استخدامه. وقد تضع به حدًّا لحياته. تأمل ألّا يحدث شيء سيء لوجهه الجميل. وهذه الحركات المحمومة الّتي يقوم بها لإثارة غضبها ليس بها ذوق. ولن يعرف مقدار الألم الّذي ستُلحقه به لاحقًا. أيًّا كان ما تُفكّر به-يرجو فعلًا-ألّا تفعله. أخرجت شيئًا من الثلّاجة ومرّت على والدتها.
«جهّزي لنا شيئًا للعشاء»
«وزوجكِ؟»
«أعدّي له حساء الخُضار بالبيض المخفوق»
«البيت فارغ من المؤونة»
«وأخي؟»
«يعيش في وحدة تامّة»
«سأذهب للتسوّق بمُفردي»
مرّت بمتجر الغذاء بالمدينة وكان مُغلقًا. لذلك قرّرت الذهاب إلى سوق الإثنين، الّذي يفتح أبوابه عشيّة الأحد. كان يجب أن تأخذ معطفها. الشتاء قادم في قلب الخريف. لا شيء غريب في ذلك، ذلك من تقولب الطقس.وأثناء مُرورها بين العربات الغلال توقّفت أمام إحداها وقد كانت صاحبتها سيّدة عجوز رثّة الثياب. نحيلة بدرجة كبيرة. وتبعث على الأستيهام بأنّها ستموتُ فقرًا.
«اشتري منّي يا حُلوة»
رُؤيتها بهذا الحال يفطر قلب المُتجوّلين. فاشترت منها ثمراتٍ كبيرة الحجم من التُفّاح الضّارب للحُمرة. أعلمتها السيّدة العجوز أنّ السبب الرئيسي لعدم شراء النّاس من عربتها وهو أنّها طيّبة وفقيرة. وهذا لا يبدو مُنصفًا. لن تكون سعيدة بدون هذا الشراء ورُبّما بمقدار أكبر. ثمّ سلّمتها تُفّاحة حمراء هديّة منها.
قالت «هذا لطفٌ شديد منكِ»
ولأنّ “نديم” يُحبّ البُرتقال فقد اشترت “نور” مزيدًا من التُفّاح. وبمُجرّد أن استدارت إلى الجانب الآخر، ابتسمت السيّدة العجوز وهي أشبه بوحش الكهوف. لقد كانت “ريماس” الماكرة. تشردُ “نور” بعينيها نحو والدها الّذي يختفي ويظهر بين المُتجوّلين. يَحمل كيسًا على ظهره. كان يقترب منها شيئًا فشيئًا. لقد تحقّقت من أمره وقد كان البُعبع. يموء كمواء القطط. دسّت التُفاحة-الّتي لم تكن تعرف أنّها مسمومة-في كيس بلاستيكي أسود. لاذت بالفرار. كأنّها مشاهد مُستعادة وشاقّة. رنّ هاتفها على نحوٍ مُباغت. قرأت الرّسالة «إذا كان هناك من يتعقّب أثركِ منذ طُفولتكِ..فلا تتواني عن تقديم شكوى إلى أقرب مركز شرطة، تحيّاتنا» ركضت-مُبتلعة أنفاسها-بين الأحياء المُلتوية. خائفة من أن يقبض عليها بفمه الخنزير الواسع. كان على أثرها ينظر إليها بعينيه المتضخّمتين، والمُخيفتين والقاَتلتين والمُشقّقتين. يُدرك-فعلًا-أنّها كبيرة جدًّا لدرجة أنّه لا يستطيع ابتلاعها دُفعة واحدة، تمامًا كما يفعل مع لُعابه. أنّى تسنّى لها مرآه وهي في ذلك العمر؟ على عَتبات الثلاثين. البُعْبُع يُفزع الصّغار ويَدسّهم في كِيسه. إنّه فقط يفكّهم من أُسرهم ويحشوهم في كيس على ظهره ويُقلّهم إلى المجهول المرُعب، نحو أرض الأساطير، أو العالم الخياليّ، حيث يلتجئ إليه الأطفال المضطهدون والمنبوذون والمتضرّرين من أهاليهم. ولكنّها كبيرة، أكبر من أن يفتكّها البُعْبُع. ولأيّ شيء يتحرّق لازدرادها بدلًا من وضعها في ذلك الكيس الّذي على ظهره؟ وأنّى تسنّى لها مرآه؟ أنّى جاز لها مرأى البُعْبُع المخيف وهو لا يتلامح إلّا للأطفال الّذين يتعرّضون للأذى والعِقاب من قبل أهاليهم؟ تمرّ خطفًا أمام المسجد الكبير. يصدح أذان المغرب. ترتجف خوفًا وبردًا. في المدينة يموت عقلها. والوحشيّة في شوارعها ضاربة. هذا أمرٌ ثابت ومُحزن تمامًا. تجري على خلفيّة شقاؤها الأخير. تندثر أجزائها. تتلاشى. كما كانت، لا تعود البتة. لن تكون أبدًا. من جوف المدينة تفرّ إلى ديارها. صدامها الوحيد مع ذاكرتها. واجترار الماضي كسادها الأبدي. تسعى إلى فهم حيّزا ممّا يحدث لها فتجنّ. ولهذا تُجن. في المدينة لن تعي مأساتها. العيش فيها مُبتذل وسخيف. كلّ الأشياء زائفة. تبني ظنًّا فيُهدم. تتخيلّ حُلمًا فيستحيل كابوسًا. تنام لتحيا وتستيقظ لتموت. غدُها لن يصير على الإطلاق. من المدينة هذا وعد وليس وعيدًا. المدينة ساقطة لأنّها إبنة زنا. لقيطة في المدينة لا شيء من شأنه أن يلوح على حقيقته. كان مساءً مُلبّدًا بالغُيوم. بين كرّ وفرّ، أوقبت “نور” المفتاح في قفل الباب وامتدّت ذراع البُعْبُع البغيضة من على عقبيها، يبغى صيدها وزجّها في الكيس. يُلاحقها ويترجّاها بأن تُحجِمُ على اللوذ بالهرب وتستمرئ مآلها. ذراعه مخيفة. مخالبه المعقوفة شبيهة بظهره المُتورّم المعقوف. يمرّ الوقت ببطء. ذراعه تمتدّ. وفي لحظة دلفت مع كل التحوّط. بقُدرة قادر أجالت بصرها في الشقّة. صفقت الباب على البُعْبُع. تلتمع جبتها من أثر العرق. لم ينل منها هاته المرّة لكنّه لها بالمرصاد.
قالت «هل هُناك أحد؟»
أجابها صوت مُخيف «هُناك المرض والاستياء. مرحبًا بكِ معنا»
تناهى إليها صرير فتح الباب. حانت منها التفاتة-بصورة عفويّة-كما لو كانت مرصودة ومتبوعة. أتراه البُعْبُع قد امتشق مفاتيح الشقّة من الكونسيرج؟ الملعون يدنو. إيقاع خُطواته على وشك ثقب طبلة أذنها. شهقت أنفاسها. البُعْبُع يدنو..يدنو..إيقاع خطواته يُقطّعها إربًا إربًا. يتدفّق الموت بتُؤَدَة. الموت شرس هذه المرّة. ساحق للغاية.
تُهمهم إلى الضياع. تتعطّل المفاهيم الّتي تدور حولها مثلما تفشل حواسها في فهم مأساتها.
شيء كالسّحاب يمرّ.
في لحظات التزعزع، دلف شقيقها وقاطع التراجيديا السّائدة فجرِضَت “نور” بريقها.
: قال
«أمّي تعبت وطلبت منكِ أن تعدّي الحساء بنفسكِ»
على عكس ما كانت تتخيّله، أومأت برأسها إيذانًا. يشتطّ ضغطها. ومُنصرفة الذّهن بالبُعبُع قالت: «لا بأس» فربّت على كتفيها «ألديكِ بعضًا من المال؟» أخرجت ما كان في حقيبتها وأعطته إيّاه. لوت شفتيها في ضيق واستطردت:«عُد. سأبقى معه» خلّص المُحادثة مُعربًا: «أنتِ أفضل أُخت في العالم» كان “نديم” يشحذ سمعه قصد أن يتلقّف ما يُدار. كانت المرأة العجوز تقضم أظفارها و تنظر إليهم-كما تفعل دائمًا-من خلال مرآة غرفتها. عالمة بكل ما يحصل. تسعى إلى تدمير السّاعين وجلب الضيق للحالمين. كائن سادي. تلحّ عليهم أنفاسهم الأخيرة. تشفط مُحاولات في عيش سليم. مثل أجهزة الدولة الّتي تُراقب الناس من مُستقرّهم ولا تتردّد في ترهيبهم. تشعر بالراحة عندما تُعذّب شخصًا ما أو ترى شخصًا ما يتألّم وتكون مصدر مُعاناته. أوّل ما يخطر ببالها كُلّما تضوّأت الصّباحات في الخارج، كيف ستسعى إلى هلاك السّاعين. كانت مُستميتة في تعذيب أحدهم لتُريح ضميرها من هذا اللطف. تجعلهم يعيشون في عذاب نفسيّ وعقلي مُدقع. كان هذا أوّل شيء يُمكن أن تُفكّر فيه. غادر “حامد”. ولأنّ “نديم” يكره حساء الفطر تلمّست “نور” طريقها إلى المطبخ لتحضير حساء يُشبه تلافيف الدماغ. كلماته تفرم دماغها، بأوجاع مُنتشرة، تشقّ كيانها شقًّا. كاتبها مساء أمس-بينما الدم يغور في رأسه-أنّه يكره رؤيتها. يبذل قُصارى جُهده للابتعاد عنها. كان لها أن تسمع رأس الكاتب يهتزّ من خلف سمّاعاتها المطّاطيّة. ما يُقلقها؟ ما تودّ الاستفسار بشأنه؟ أنشأ في تفسير علاقة الخوف بالماضي ويُرفق الخيال-بشكلٍ مُلائم-بمُصطلحات نفسيّة. «إذا لم تضعِ حدًّا لماضيكِ فسيعود ماضيكِ ويضع حدًّا لكِ» قال لها الكاتب وقد استغرق به الشرح وقتًا طويلًا. يجب أن تتخيّل قدر الإمكان وبشكلٍ ملموس. خلّص تصريحه بعبارات تتماوج في رأسها «استخدمي خيالكَ» وأغلق الهاتف.
وفي وقت مُباغت، رُجَّ الباب بصوت عالٍ، البُعْبُع الودود ولّى راجعًا بجسارة
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي