أرض الكنوز لساهرة سعيد بين الغربة والضياع*
في البداية، أود أن أشكر صديقي الدكتور حسام عقل والكاتبة عزة عز الدين وملتقى السرد العربي على ما يقدمونه للثقافة العربية والأدب العربي.
وحين أتحدث قبل أو بعد الدكتور، فأنا في كلتا الحالتين أتشبه به مرددًا قول السهروردي:وتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبّه بالرجال فلاح
في رائعته:أبدًا تحنُّ إليكم الأرواح
ووصالكم ريحانها والرّاح
أرض الكنوز
والأرض هي الأم، الحضن، الأمان، الوطن، في مقابل الغربة والبحث عن المال.
والتمسك بالأرض فطري لأننا خُلقنا منها: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)، (والله أنبتكم من الأرض نباتًا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجًا)، (والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام).
من العنوان نلمح التشويق؛ أرض الكنوز، في إشارة إلى نوع الأرض التي يبحث عنها القارئ ليجد نفسه باحثًا عن الكنز، ثم يفاجأ بعد رحلة ممتعة أنه لا يوجد كنز، وأن الكنز الحقيقي هو في بلدك ووطنك، وأنك حين سافرت كنت مخطئًا.
وتتماهى هذه الفكرة مع الحكاية التي كنا نسمعها ونحن صغار عن الرجل الذي ترك أرضًا لأبنائه وأخبرهم أن فيها كنزًا، ومع مرور الوقت أصابهم الملل ورحلوا، ولم يتبقَّ منهم سوى الصغير الذي فهم أن الأرض في حد ذاتها والحفاظ عليها هو الكنز الحقيقي.
تبدأ الرواية من النهاية، أو ما يسمى (الفلاش باك)، حين تجلس ربيعة على فراشها في غرفة نومها في بيتها في ستوكهولم.
وفيما يشبه الحلم، بعد متابعة الأخبار عن فناء العالم، تعود بالذاكرة إلى الوراء، حيث العراق في ثمانينات القرن الماضي. وهي تقنية جديدة استخدمها الكثير من الروائيين الأجانب والعرب، ومنهم رضوى عاشور في روايتها “الطنطورية”، حين تحكي عن حياتها في أمريكا مع الأحفاد، ثم تعود بالذاكرة إلى قريتها في فلسطين والتهجير.
لكن ساهرة سعيد لم تعطِ للنفس السردي المعاش في الغربة مكانًا للحكي، وإنما جاءت الأحداث سريعة إلى الوراء مباشرة. ولعلها فكرة تتماشى مع ما رأت وشاهدت عن فكرة فناء العالم في أحد البرامج التي تشاهدها.
وفيما يشبه الحلم، تعود إلى العراق في عام 1980.
طفلة عراقية قروية تعيش في أمن وأمان وسلام وسط العائلة، تشعر بالدفء وتستمع إلى الحكايا، ثم تكبر ويتحول الوضع في العراق إلى ما لا يُطاق: حرب العراق وإيران، الدكتاتورية، إلخ؛ مما يدفع الطفلة التي بدأت تكبر لمغادرة العراق.
تقرر السفر، وتخرج من العراق إلى سوريا، ومن سوريا إلى باريس، ومن باريس إلى أرض الكنوز، وهي منطقة صحراوية تشبه الربع الخالي، ومنه إلى إسبانيا.
وفي هذه الرحلة الشاقة، استطاعت أن تقول كل شيء عن العراق والعرب والشعوب العربية والأوروبية، عن التفكك الأسري، الحب، الزواج، الطلاق، المخدرات، الأمراض النفسية، التحرش، التنمر، مشاكل الشباب في بلدانهم العربية والأوروبية.
وظّفت اللغة والسرد عبر رحلة ربيعة وصديقتها سليمة.
ربيعة تتزوج بعامر وتنجب غسان، وسليمة تتزوج بخالد وتنجب سلمى.
خالد، الذي تكتشف سليمة أنه تاجر مخدرات، يكون مصيره السجن. وربيعة تنفصل عن عامر، ثم تتزوج من جديد بالمغربي الحبيب بن عبد القادر، الذي تكتشف أنه تاجر عملة ورقيق، إلخ، ويكون مصيره السجن.
ثلاث شخصيات رئيسة في الرواية:
ربيعة، سليمة، وجثير.
جثير، الذي تلتقيه ربيعة في باريس، هو من وجهة نظري البطل الحقيقي للرواية ومحرك الأحداث حتى النهاية.
تُسقط الكاتبة جميع الشخصيات في طريقها إلى النهاية وتُبقي على ربيعة وسليمة وجثير، وهو من وجهة نظري شخصية وهمية أو يمثل الشر أو الشيطان.
في باريس يظهر دوره، وحكايات الخان الذي ضم مجموعة من العراقيين الذين هربوا من العراق ويحيون على الشجار والخمر والغيبة والنميمة والتطفل وادعاء المعرفة والعلاقات، والجميع هالك لا محالة.
ثم الانتقال السريع إلى أرض الكنوز. وكان من الأولى تعلم اللغة والاندماج في المجتمع، لكنه الإنسان العربي الباحث عن الراحة والسعادة بلا تعب:يريد التمر دون غراس نخل
ولا حتى لجزع النخل هزّاويبغي المجد صفوًا دون جهد
يطير لعرشه وثبًا وقفزًاوتصدمه الدنيا فيقول بئسًا
إذا لم تكن إبلًا فمعزًاويحيا عالة لم يُعطَ شيئًا
فلا دينًا ولا وطنًا أعزّافليس بعيشه أحدًا يُهنّا
وليس بموته أحدًا يُعزّىإذا رمتَ العُلا من غير بذل
فَنَم واحلم وكُل لحمًا وأرزّا
هؤلاء العراقيون بشحمهم ولحمهم ومشاكلهم يسافرون إلى أرض الكنوز بحثًا عن الذهب في الربع الخالي أو ما يشبهه. يُضاف إليهم مجموعة من المصريين والسوريين والفلسطينيين، إلخ، لتتسع الدائرة ويزداد الخلاف والمشاكل والغيبة والنميمة والوقيعة بين الأزواج، ونشر الفتنة والكذب، إلخ. نفس الوجوه، الخمر، النساء، إلخ.
وفي النهاية لا كنز ولا ذهب. وهنا تضع الكاتبة يدها على الداء وتصف الدواء؛ أن الكنز سراب وضياع، وأن الخروج إلى العالم الحقيقي هو الحل الأمثل، والمواجهة والعمل والعلم، إلخ.
كما أن الغربة ليست كما يظن الناس دولارات وذهب ونساء وخمور، وإنما ضياع، وأن الكنز الحقيقي في بلدكم، وأن قرار الغربة هو أكبر خطأ يرتكبه الإنسان العربي تحت تأثير النشوة والبحث عن الراحة ولحظات قلة الوعي والاستعجال.
الرواية وتقنيات السرد
تعتمد الكاتبة على تقنية (الفلاش باك) على عجل، ثم تبدأ من الطفولة وتتابع حتى تعود إلى ما بدأت منه.
ومن خلال السرد، قالت كل شيء:
ـ الرواية ومشكلات الحب السريع والزواج بمجرد الإعجاب والتعارف، وهو يشبه حاليًا زواج الفيسبوك، وهو ما يؤدي إلى الطلاق.
ـ الرواية ومشكلات الواقع العربي التي لم تتغير منذ القرن الماضي وإلى الآن، وكأن لا أحد يريد أن يتعلم، والصراع بين الأفراد إسقاط على الصراع بين الدول مما أدى إلى ضعف الوطن العربي.
ـ الرواية والغرب واحترام القانون وهيبة القضاء، وأن الجميع أمام القانون سواء، في مقابل الشعوب العربية التي تحيا سبهللا.
ـ الرواية وروح الدعابة والفكاهة، وهو أمر ينسجم مع شخصية الكاتبة لمن يعرفها عن قرب.
ـ الرواية ومعاملة الأزواج والضرب والإهانات التي تتعرض لها الزوجة، وبرغم ذلك تظل زوجة.
ـ الرواية وتجارة المخدرات والرقيق والجنس، وهي مشكلة كبيرة لم يعرف العالم لها حلًا رغم التقدم وادعاء الحضارة.
ـ الرواية واللغات وأهمية تعلم اللغات في مقابل نقد تعليم اللغات في وطننا العربي للتباهي والبرستيج.
ـ الرواية وعالم الخدمات وسوء الإدارة، وشركات الطيران ومشاكلها قديمًا وحديثًا.
ـ الرواية ومشكلات المجتمعات العربية من الداخل مثل سوريا، العراق، إلخ.
ـ الرواية والتراث الشعبي والأمثال العربية والعراقية والطعام والشراب، إلخ.
ـ الرواية وتربية الأولاد، ومشكلة زوج الأم.
ـ الرواية والاستشهاد بالشعر وحضور المتنبي الطاغي.
وفي النهاية، نبارك للكاتبة العراقية ساهرة سعيد، وسوف يكون لنا معها حوار ربما تفصح لنا فيه عن عوالم أخرى في الرواية ومشروعها الجديد.
ناصر رمضان عبد الحميد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي