إبحار بلا شراع
إبحار في اللغة والجمال
في إبحار بلا شراع للشاعرة اللبنانية زينة حمود نحن أمام بحر من اللغة وشراعنا فيه المتعة فإبحارنا أمان، ووصولنا إلى الشاطئ لامحالة مضمون لأن الربان ماهرٌ ممسكٌ بأدواته ومتعمقٌ في الإبداع ومن هنا وأنا أبحر مع الشاعرة في ديوانها لا أخافُ من العواصف لأنني أعرف أن الشاعرة ممسكة بزمام الأمور.
من العنوان نعرف أن الحالة الشعرية للشاعرة فيها نوعٌ من البحث عن الذات أو الوطن وكلاهما في لبنان مدمر، فالنصوص كاشفة من الوهلة الأولى عن حالة الضياع، ضياعُ الذات وضياع الوطن، والذي يبحر بلا شراع، فإنه حتما ً سيغرق، وقد تحققت نبوءة الشاعرة بعد عامين من إصدار ديوانها، فها هو لبنان من سيء إلى أسوأ.
تصف الشاعرة هذه الحالة المتأرجحةُ بين الذات (الأنا) والآخر( الوطن) في نصها المعنون:
زمن عجيب
…
جريح أنت يا قلبي
وسفرك دون وجهة
وهجرتك بلا مكان
تود الرحيل بلا رحيل
كطائر مكسور تتقاذفك
الأرض والسماء
….
وهي حالة تنطبق أيضًا على لبنان الجريح الذي أصبح يشبه الطائر الجريح الذي لا حول له ولا قوة، تائه في صحاري الحياة وفي هذه الحالة تلجأ الشاعرة إلى إبداعها، تتسلح به في وجه ما تمر به ذاتها (الأنا) والآخر (الوطن) هي حالة تفرض نفسها على المبدع دون أن يدري، تبث الشاعرة همومها وشجونها ويتحول الإبداع (الشعر) إلى حالة تحوله إلى عاشق يترصدها يتبع خطاها وحين يلاحقها تترك نفسها له، لكنه يقذف بها إلى شاطىء بعيد:
مليء بالأحزان والأمل.
…
عيونك تلاحقني
وتنهدات أنفاسك تتبعني
وتقذفُ بي إلى شاطئ بعيد
مقيدةٌ بالعواطف
وليلي… يهجره السكون
… أحلامي بلا أحلام
…
هذا الحلمُ الضائعُ هو غياب الشراع، سببهُ الإبحار دون تعقل، إنه الحب الذي أدى بنا إلى الغياب والضياع، وليس ثمة معرفة ٍ بالسؤال أو الجواب، وليس في الحب عيب وإنما العيب فيمن نحبُهُ يريد بحبك، أن يمتلك ويعيق نجاحك كأنك من خواصه ٍ وكيف تكتمل الرحلة بأمان.
إننا في إبحار بلا شراع نجد الشاعرة تتكئ على الحالة الشعورية على إحساسها فتكتب ما تحس بها عفويًّا دون تكلف أو صنعة تثقلُ المعنى وتجعل اللفظ عبئًا على المُتلقي، وقصيدة النثر التي ينتمي إليها الديوان تُبحرُ في ذلك بجدارة رغم ميولها أحياناً إلى الموسيقى، لكنها على عجل، فالإبداع هنا هو الأساس، إبداع اللغة والإحساس المنشئ للحالة الشعرية الضاربة في شعورها، فنصوصها لا تحتاجُ إلى تفسير، الدلالة واضحة، واللغة سهلة ،والجملةُ لا رمزيةَ فيها ولا غموض، إنها روح شفافة عانقت الوطن وعالجت نصها بالتطهير عبر شعورها الذي أخرج لنا شعرها عذبًا نديًّا.
تعبر الشاعرة عن نفسها بإحساسها المشبع بالجمال والبوح، جمالُ الصورةِ، وجمالُ اللغة، وجمال الإحساس، وجمال البوح وجمال الروح، هذا الجمال الذي يرفض القبحَ والدمار ويحب الحياةَ، والناس شأنها شأن لبنان الجميل، الذي تاه وتاهت معه كشراع السفينة
….
تاه شراع سفينتي
بعد سنوات من الهجران
وبتُ في منتصف الطريق
أحلامي مكسورة
طفولتي مقهورة
سُرقت مني السكينة
غدوتُ أُفتشُ عن الذات
أسأل عنها داخلي وحولي
….
وسؤال الشعراء دائمًا بلا جواب، والحلم للشعراء نصف حياتهم، والنصفُ يبقى للسؤال وللجواب، إنها حالةٌ من الانكسارِ بسبب غياب المدينة وغياب الحبيب والوحدة التي تلُفُها.
…
أيّها الشراع عُد بي
عُد بي إلى مدينتي
وأعِدْ إلي حقيبتي وسكينتي
…
بعيدًا عن تعريف أنسي الحاج وأدونيس لقصيدة النثر وكلاهُما اعتمد في الأساس على تعريف سوزان برنار، فقصيدة النثر لا تعريف لها، لأنها تتكئ على نفسها وعلى ذاتها، وتُخرج من كلماتها ما يجعل القارئ أو المتلقي هو الذي يحكم عليها من نفسه بنفسه، هل هي قصيدة أم لا؟ على عكس الشعر الخليلي لأن الموسيقى فيه جلية والطرب فيه لدى المتلقي يجعله يُزعنُ بالشعر ويطربُ بالإبداع، شريطة عدم الإغراق في النظم والمباشرة والبُعد عن الخطابة، لكن قصيدة النثر لا موسيقى لها وإبداعها وموسيقاها داخلية، ومن هنا كانت اللغةُ هي العامل الرئيس فيها، واللغة بطبعها موسيقية، شريطة الاختيار منها وما يناسبُ المعنى الذي يوضع له اللفظ، والذي يريده الشاعر، واللغة العربية لغة متحركة ٌ وكل ما فيها راقصٌ وبديع، فحروفها إيقاعٌ
وتراكيبُها موسيقى، وما الإعرابُ الذي هو ضبط آخر الكلمة إلا نوع من الموسيقة المتحركة نصبًا ورفعًا وجرًا، فقصيدة النثر صعوبتها في كونها تطلب من الشاعر إشعاعًا وتوهجًا وإدهاشًا وإيجازًا وبلاغة عالية تفرض موسيقاها لتكون بديلاً للقافية والبحر الشعري.
وفي إبحار بلا شراع، كُلُ هذا الجمال، اللغة مشرقة، والحروف مشعةٌ، وحواءُ طيفُها حاضر، إنه الإبداعُ بين الورقة والألم
….
كتبتُ اسمك على صفحة بيضاء
تشكلت حروفًا ونقاط
رسمْتُ عينيك الوطفاوين
وحكت حكاية الحسناوات
ملكةٌ… في ربيع العمر
هربت من النيران
حملت الأوجاع
…
نعم حملت الشاعرة الأوجاع، فأخرجت لنا شعرها وعطرها وبوحها وتمردها وحلمها، تنفست الصعداء، ولن تنسى إنها امرأة شرقية في قلبها بيروت وخلف الجدران تعتزل، وتنتظر المطر، وتتسلح بالكلمة والحب، فالحب هو القادر على إيقاظها من سُباتها العميق
….
أيقظني من سُبات عميق
حين لامس شعري كفهُ
وهمس لي… أنت حبي الوحيد
ومسائي دونك… غريب
….
في إبحار بلا شراع تجد الشاعرة نفسها وتجدُ في الشعر سلوتها، فهي معه تستطيع الوصول إلى شاطئ الأمان، وأن تحققَ حلمَها وتعوضُ ما فاتها بين الذات والآخر أي الأنا والوطن.
تحياتي إلى الشاعرة المبدعة زينة حمود.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي