استعاد وعيه على رنين منبه الساعة المدوي، وراح يتأمل طلاء سقف الغرفة الذي أتلفته رطوبة فصل الشتاء. لفافة واحدة من مخدر الحشيش و كوب قهوة سوداء تكفيان لتعديل مزاجه العكر و إشغاله ضنك أيامه الأخيرة. قبل أن يتوجه إلى عمله الممل الذي لا يتغير فيه إلا التقويم الذي يكتبه على السبورة . نفس الحجرة، نفس دروس الرياضيات المعقدة ، و نفس الوجوه البائسة التي تعتقد أنها ستغير العالم ما إن كبرت.
-يالكم من أشقياء ليت العالم بسهولة أحلامكم الطفولية و ليتني لم أكن طفلا ذات يوم أمنية رجوت لو تحققت أو على الأقل لو لزمت ذكراها الصندوق الأسود من الذاكرة.
لكن اتصالها قبل أسبوعين كان كفيلا بنسف أي محاولة له في النسيان و إيقاظ كل جرح غائر كان قد ظن أنه التأم.
-لقد عجزت أقوى العقاقير و المسكنات على تخفيف ألمه. باختصار والدك يصارع الموت حاول القدوم في أقرب وقت.
-لكن هل كان لي أب ؟ و هل هو فعلا مريض أم أنها إحدى ألاعيبها المعهودة ؟ يا لها من امرأة مستبدة لا يرف لها جفن حتى تصل لكل ما تريده.
تبعثرت أوراق الإمتحانات أثناء ركضه خلف الحافلة التي آثرت تركه على قارعة الطريق غارقا في شروده، فاضطر لجر قدميه بين الأزقة الضيقة للمدينة العتيقة مختصرا طريقه ،عسى ألا يحكم المدير سيوف الشتائم في رقبته على مرأى من الناس. ليمر بجانب متجر التحف التي كان يضع بجانبها يوسف صندوقه الخشبي و يرص عليه علك النعناع و السجائر غير عابئ بنظرة المارة لجوربه الممزق البارز من نعله البلاستيكي و هو يحفظ أخاه الأغاني الوطنية تارة و يعلمه الحروف الأبجدية تارة أخرى .
-يا لي من أحمق كيف نسيت أن اليوم عطلة.
عاودت الإتصال لتؤكد على ضرورة حضوره في أقرب وقت فالحال لا يبشر بخير .
-لكن ألم يمت بعد ؟أو لم يعش من العمر ما يكفيه ليزهد الحياة؟ياله من عربيد. أسرها في نفسه قبل أن يجيب: حسنا قد أزوره مساء فور انتهائي من مشاهدة مبارات كرة القدم لكن لا أعدك بشيء.
دخل الباب الرئيسي، و سأل إحدى الممرضات عن جناح مرضى القلب و الشرايين فأرشدته لنهاية الممر. و ما إن اقترب من الغرفة الثانية حتى تجهم و جهه و تخشبت أطرافه لرؤية رجل و قد حوله الإعياء لهيكل عظمي و هو يحدق إليه شاخص العينين رافعا يده اليمنى نحوه غير قادر على التعبير حتى اعترضه حارس المشفى: من أنت؟ و إلى أين أنت ذاهب يا فتى؟ فقد انتهى و قت الزيارة .
-أنا يوسف
-عد أدراجك يا فتى فمثلك الكثير.
-دعني فأنا يوسف وهذا أبي الذي كنت أبا لأبنائه الخمسة بينما كان غارقا في الملذات . دعني فأنا يوسف وهذا أبي الذي قايضني و إخوتي بحضن عاهرة…
أعاد النظر للمريض و إذا بروحه قد حلقت كطائر نحو السماء.
-أبي! أنا يوسف ،يوسف يا أبي و قد جئت لأخبرك أني لا أزال أحبك.
د. روميساء حرور
د. روميساء حرور/قصة
استعاد وعيه على رنين منبه الساعة المدوي، وراح يتأمل طلاء سقف الغرفة الذي أتلفته رطوبة فصل الشتاء. لفافة واحدة من...
اقرأ المزيد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي