السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أسعد الله أوقاتكم بكل خير.
بداية، أودّ أن أتقدّم بجزيل الشكر إلى ملتقى الشعراء العرب ومجلّة أزهار الحرف على هذا اللّقاء الأدبيّ والفكريّ المتميّز، الّذي يجمعنا اليوم للاحتفاء بإصدار قيّم وبارز في الحقل النقديّ، وهو كتاب “الهويّة المفقودة والانتماءات المتعدّدة” للدكتورة هدى المعدراني، هذا العمل الّذي يفتح أمامنا أفقاً نقديًّا خصبًا لمقاربة قضايا الهويّة من زوايا سرديّة وصورولوجيّة جديدة.
ورقتي اليوم بعنوان: “رهانات الهوية وآفاق امتدادها في الدرس النقدي المقارن: جهود الناقدة د. هدى المعدراني – أنموذجاً_
تأطير عام للمداخلة
الصورولوجيا علما والهويّة تعددا
تسعى الناقدة من أول استهلال بتقديم كتابها أن تُؤطّر للدرس الصورولوجيّ بامتياز، و ذلك عبر احداثيّتين هامّتين، متجسّدتين في صورتيّ الأنا والآخر” اقصد بالآخر “الأنا الغيريّ”الذي ليس” نحن “، بالسرد الروائيّ وكلّ ما يرتبط بهما من ثنائيّات ضدّيّة..
وهو ما يثير اشكاليّة بحثيّة لعلني انتبهت لها ألا وهي مبحث( الصورولوجيا) ليس من باب كونها علما حديثا فحسب وإنّما من منظور نقد النقد بالأدب المقارن..
ولن أكون إلّا محقّة إذا ما قورنت الدكتورة هدى المعدراني بـ “ــــبيير. ف. زيما” ..
فكما كرّس “بيير . ف. زيما” السيميولوجيا وعلم الدلالة في كتابه”علم الأدب المقارن” (komparatistik)،1 ليفسح المجال امام تطوّر الصورولوجيا حين وجّه الأدب المقارن وجهات عدّة..
فإنّ الدكتورة هدى وهي توظّف المربّع السيميائيّ، ووفق إطار هويّاتي وحضاريّ فسحت المجال أمام الهويّة في تعدّدها لتتشكّل سرديًّا فلقد لجأت الى الاعتماد أساسا على كيفيّة تشكّل صورة الهويّة المرصودة في ذهن الأنا وذهن الآخر بأشكال روائيّة وكتابات ابداعيّة ومن ثمّ تقاربهما من خلال المنجز النقديّ عمومًا والروائيّ، ما يجعلها عرضة لثنائيّة ضديّة متعدّدة..
ففي بلاد الدخان لهدى عيد، يتكثّف حضور الآخر بوصفه مقابلًا، ومهدِّدًا ، بينما في شريد المنازل لجبور الدويهي تتشكّل الهوية من داخل هشاشة الذّات وانقسامها بين انتماءات متباينة.
لذلك تحضر في هذه القراءة النقديّة مصطلحات مثل “الذات الساردة”، “تفكيك المرجع”، “تداخل الخطابات”، و”الهويّة المزدوجة”، ما يمنح النصّ النقديّ قدرة على ملامسة العمق الفكريّ والأنثروبولوجيّ للهويّة والمبثوث حينا بالسرد والكامن عمق الرواية.
فلو ننظر إلى العنوان ونتفحّصه
“الهويّة المفقودة والانتماءات المتعدّدة” إنّه بلا شكّ يستدعي منذ اللّحظة الأولى قراءة متأنيّة لمفهوم الهويّة في تمظهراته السرديّة، وتبحث في تعامله مع الانتماء بوصفه بنية متحرّكة تتقاطع فيها الذوات والأزمنة والفضاءات.
في هذا الكتاب، تقدّم د. هدى مقاربة هوياتيّة سرديّة نقديّة شديدة الوعي، تُحاكي النصّ الروائيّ العربيّ الحديث بوصفه حقلًا مفتوحًا للتأويل والتحليل، حتى تنكشف فيه أنساق المعنى عبر صيرورات لغويّة وبنيويّة مركّبة. ويقع تمرير أنساق هذه الهويّة بمختلف تمثّلاتها..
وعندها تُقرأ الرواية برؤى جديدة لم نكن كما عهدناها بالدراسات النقديّة مكتفية بأثر المكان والزمان وعلاقته بالهويّة وانّما تصير الهويّة فيها انعكاسًا لواقع مأزوم ولا تغدو الصورولوجيا مجالًا فحسب وانّما هي إعادة تشكيل الذات الأنا أو الآخر وفق منطق روائيّ تتنازعه التوتّرات والتحوّلات والتشكّلات الرمزيّة.
ثانيا: جدلية الأنا والآخر و تشكيل هويّة الخطابات الإبداعية
الهويّة في هذا السياق لا تُتناوَل بوصفها مفهومًا قائمًا بمعزل عن ذاته، وإنّما تُستحضَر من داخل التجربة النصيّة، عبر رصد التشكّلات المتعدّدة للذات في علاقتها بالعالم، بالآخر، وبالذاكرة الجمعيّة. ومن خلال أدوات التحليل السرديّ، وتوظيف مرن للمربع السيميائيّ، تفتح الباحثة أفقًا نقديًا يُتيح تفهّم الرواية العربيّة المعاصرة كمجال لإعادة إنتاج المعنى، ومختبر للتمثيل الرمزيّ الذي يتفاعل فيه الخطاب الثقافيّ مع الإيقاع الجماليّ للسرد.. وتحليلا للأنساق المضمرة.
وهذا الحفر في الطبقات السرديّة يتجلّى في رواية “قيد الدرس” للانا عبد الرحمن، حيث تُفكّك الذّات الساردة جغرافيا الانتماء وتعيد بناء نفسها من خلال التهشيم الداخليّ، وأيضًا في فاقد الهوية لحنان فرحات، حيث تُطرح إشكالية الانتماء من موقع هشّ ومتأرجح، يعكس الضياع النفسي والاجتماعي في زمن مُفكك
خلاصة
ما يُلفت في هذا العمل أكتفي بمثال هو البراعة في استنطاق النصوص من داخلها، كأن تُقرأ رواية “قيد الدرس” بوصفها خطابًا سرديًّا لذوات مكسورة تُعيد بناء انتمائها من حطام الذاكرة، حيث يُفكّك النص حدود الجغرافيا واللغة، وتُستبدل الوطنيّة بالمشترك الإنسانيّ المترنّح في فضاءات الهامش.
وهذا يعيدنا إلى جوهر الكتاب: الهويّة ليست وحدة مغلقة، وإنّما كينونة متحرّكة تعيد صياغة ذاتها كلما اشتبكت مع سرد جديد.
ختامًا يُعيد كتاب د. هدى فتح أسئلة كبرى حول الهويّة والانتماء، ويقترح علينا مقاربةً جديدة للرواية، يتجاوز كونها حاملةً لرسائل جاهزة، ولكن بوصفها فعلَ تفكيك وتركيب، ومساحة لإعادة التفكير في الذات والعالم.
إنه عمل نقديّ يستحق التوقّف عنده، لما يحمله من أدوات تحليل، وأيضًا لما يطرحه من مساءلات تلامس جوهر الكتابة، وجوهرنا.
لا يسعني إلا أن أعبّر عن تقديري العميق لما قدّمته الدكتورة هدى المعدراني في هذا الكتاب من اجتهاد نقديّ رصين، يزاوج بين العمق النظريّ والحسّ الجماليّ، ويمنح الهويّة بُعداً متجدّداً في فضاء النقد المقارن.
أشكر حضوركم الكريم، وأشكر القائمين على هذه الندوة المباركة، وأتمنى أن تكون هذه القراءة قد أضاءت زاوية من زوايا هذا العمل المتميّز.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المرجع
1- زيما بيير، النص والمجتمع أفاق علم اجتماع النقد. (تر) أنطوان أبو زيد مركز دراسات الوحدة العربية، المنظمة العربية للترجمة مراجعة موريس أبو ناض 14 2013، ص 11.
2- كتاب تقديم الأدب المقارن اتجاهات وتطبيقات جديدة، تأليف سيزر دومينغيز وهارون سوسي وداريو فيلانويفا، ترجمة فؤاد عبد المطلب، سلسة عالم المعرفة لسنة 2017.

خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي