حين تختلط أنفاس الحبر برائحة الألوان، وحين تتعانق القصيدة مع اللوحة، نجد أنفسنا أمام تجربة إبداعية فريدة تُجسّدها الكاتبة والشاعرة والرسامة اللبنانية ملفينا توفيق أبو مراد.
هي واحدة من الأصوات الأدبية والفنية التي تركت بصمة خاصة في المشهد الثقافي اللبناني. فهي عضو اتحاد الكتّاب اللبنانيين، وأصدرت عدة مؤلفات لاقت صدى واسعًا، منها ديوان كنوز منسية، ومن صميم الحياة، وتأثيرات الحياة على المجتمع، إلى جانب روايتها المميزة بين صرختي الولادة والموت. كما أصدرت كتاب فسيفساء الحروف الذي يتضمن أمثالًا وحكمًا وآيات من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم، والذي أصبح عنوانًا مميزًا يضم كتبها الصادرة وما سيصدر لاحقًا.
فبين الحرف واللوحة، بين الإبداع والوظيفة، صنعت لنفسها هوية لا تشبه سواها، وظلت صوتًا يعبّر عن الإنسان والوطن. إنها ملفينا توفيق أبو مراد.
ومن هنا، كان لمجلة أزهار الحرف هذا الحوار معها لتفتح لنا أبواب تجربتها الإبداعية المتعددة.
حاورتها من مصر: مي خالد
1) في البداية، متى نشأت بداخلكِ الشرارة الأولى نحو شغف الكتابة؟ وأخبرينا عن خطواتك الأولى في مسار الكتابة الأدبية؟
لهذا الأمر قصة. أول مسودة كتبتها كانت بعنوان الجدة، استوحيتها من طفولتي في وادي شحرور. ما زلت أذكر ذهابي مع أمي إلى فرن الضيعة عند الثانية بعد منتصف الليل، حاملتين العجين على رؤوسنا، لنعود مع الفجر بالخبز الطازج، صيفًا وشتاءً، 52 مرة في السنة. أحيانًا أعود وحدي لأن أمي تتأخر بسبب الزحمة في الفرن.
تخيلوا المشهد: فتاة دون العاشرة من عمرها تسير وحدها عند الفجر، تحمل صينية الخبز على رأسها، صيفًا ترى بزوغ الشمس واندحار الليل، وشتاءً تسير في العتمة تحت هطول المطر، تسمع دوي الرعد وترى وميض البرق. خيال الطفلة يسبح ليتخطى الخوف… وأيام قطف الزيتون في موسم المدرسة، كلها ذكريات تركت أثرًا عميقًا في نفسي، مسهمةً في تكوين شخصيتي الأدبية والفنية.
2) لقد وصفتِ “المراهق المتمرد” في أحد مقالاتك بأنه “يبتعد غالبًا عن أهله، ولو كان ضمن المنزل ينزوي بنفسه مع أفكاره، مدّعيًا أنه يدرس، بينما هو غارق في التفكير”. فهل ترين أن الكاتب قادر على أن يلعب دورًا فارقًا في حياة أي مراهق؟ وهل تقع على عاتق الكاتب مسؤولية تجاه عقل هذا القارئ الصغير؟
في كل إنسان متمرد نائم قد يظهر تمرده أو لا يظهر. نعم، لأن الكاتب مرّ بهذه التجربة ويعرف مفاتيحها.
إذا كان المراهق المتمرد من أفراد عائلته يكون له دور مهم في معرفة أسباب انعزاله. أما إذا كان لا يعرفه، فالقارئ يستنير من تجارب الكاتب وتجارب غيره التي كتبها، فيحسن بفكره قبل فعله كيف يزيل وحدة المتمرد وانعزاله.
مع العلم أن المراهق والمتمرد قلّما يقرأ.
3) كثيرون يظنون أن الوظيفة تقتل الموهبة وتحدّ من الإبداع، لكنكِ استطعتِ كسر هذه القاعدة. فما سر قدرتكِ على الجمع بين وظيفة تقليدية وإبداع فني متعدد الأوجه؟
سؤال وجيه. الوظيفة تلهي صاحب الموهبة عن أفكاره، أما إذا كان الموهوب متمكنًا من موهبته، يتعاطى معها كأنها جزء من يومياته. الفكر لا يكبحه إلا صاحبه، والموهبة من الفكر قبل أن تتجسد في الواقع.
الحكم نتيجة التجارب. (الوظيفة مقبرة الطموح) كتبها من عاش هذه التجربة، لكنها قد لا تنطبق على غيره. فهي ليست قاعدة، وإن كانت كذلك فلكل قاعدة شواذها.
4) ما الرسالة الأساسية التي تحملها مجموعتك الشعرية كنوز منسية؟ ومن وجهة نظركِ، ما أهم الكنوز الأدبية أو الأخلاقية التي ينبغي للكاتب ألّا يغفل عنها خلال رحلته الإبداعية؟
كنوز منسية (الجزء الأول) يتضمن رباعيات متنوعة من الزجل اللبناني، تخطى عددها 300 رباعية.
رسائله متعددة: منها وصف للطبيعة، ومنها ما يعكس مآسي الشعب اللبناني وأفراحه، وأهمية التواصل بين الأهل والأولاد، إضافةً إلى ردود على سجالات مع شعراء لبنانيين وعرب، ومشاركات في بوح الصور على مواقع التواصل الاجتماعي.
5) عندما تعجز الحروف عن البوح، هل تتحول الفرشاة إلى وسيلة للحديث؟ وهل تساعدك ألوانك وفرشاتك على التعبير عن مشاعر لا تستطيع الكلمات احتواءها؟
ليس بالضرورة عند متعدد المواهب. عندما أرسم أركز فكري على اللوحة، كوني لا أنسخ لوحاتي بل أرسمها مباشرة من فكري. اللوحة تجسد ما يقصده الرسام وقد تكون سهلة الفهم عند من يراها، أما الكتابة والشعر فهي حروف تجعل القارئ يسرح في ما يقصده الشاعر أو الكاتب ليتصور المشهد.
كما يقال “لكل آن أوانه”. تعبير الريشة قد يختلف عن تعبير الحرف. ومن يقرأ ديواني كنوز منسية (الجزء الأول) يكتشف ذلك، ففيه لوحات رائعة مرسومة بالحرف.
6) لو عدنا بالزمن إلى مشاركتك في معرض مصر قبل خمس سنوات… حدّثينا أكثر عن تلك التجربة، وما أبرز الانطباعات أو المواقف التي بقيت في ذاكرتك منها؟
أرسل لي أحد الأصدقاء دعوة من بروفايل المعرض. طلبت المشاركة وكانت أونلاين، ووافقوا على طلبي. صورت أعمالي الحرفية فيديو وأرسلته لهم، لكن للأسف عرضوا القليل منه فقط.
7) في ظل التقدّم التكنولوجي الهائل الذي نشهده، وتوغّل الذكاء الاصطناعي في معظم المجالات، برأيك: هل يُمثّل الذكاء الاصطناعي فرصة للفنانين والكتّاب أم تهديدًا لهويتهم الإبداعية؟
الذكاء الاصطناعي مبرمج، ومن تواصلي في هذا الموقع لاحظت أنه يرتكب أخطاء في التعبير بعد قراءته للرسائل أو الأسئلة الموجهة إليه. لا يمكن الاعتماد عليه 100%.
من يعتمد عليه هو من يفتقد الثقة بنفسه، فيكون كمن يسرق فكر غيره، وتضيع هوية السارق. ومع التقدم الخوارزمي اليوم، أصبح بالإمكان معرفة ما إذا كانت القصة أو القصيدة من إنتاج الذكاء الاصطناعي.
أنا أرفض الاستسهال. الأمر يشبه ذاكرة التلميذ الحية والسريعة قبل أن يعتمد على الآلة الحاسبة، ثم لاحقًا على الهاتف المحمول… إلخ.
8) إلى أي مدى تأثرت روحك الفنية وحرّيتك الكتابية بالأزمات التي يعيشها لبنان؟ وإذا كان لكِ أن تخاطبي وطنك بكلمة صادقة من قلبك، ماذا تقولين له؟
الكاتب والفنان جزء من الواقع. أكتب عن لبنان بصدق دون تطرف، وأحيانًا بأسلوب “السهل الممتنع” ليتمكن القارئ مهما كانت ثقافته من فهم الرسالة.
الوطن بحاجة لصوت حقيقي يعكس معاناة الإنسان وأمله في آن واحد.
9) كيف تتمنين أن يتذكركِ القرّاء بعد سنوات طويلة؟ وما النصيحة التي توجهينها للشباب اللبناني المبدع في بداية مشواره حتى يحوّل التحديات إلى فرص للإبداع؟
كما أنا: المتجسدة بحروفي الهادفة ولوحاتي الهادئة.
أخاطبهم كما أخاطب إخوتي وأولادي وأحفادي: رزقك آتٍ إن ثابرت على تنمية موهبتك. العلم رائع، والمتعلم يعطي من علمه ومعرفته وثقافته، فهي سلاحه في عطائه.
كم من متعلم غير مثقف لا يعرف إلا ما تعلمه، وكم من غير متعلم مثقف، ثقافته تظهر في موهبته وعطائه.
10) وأخيرًا، ما رأيك في الملتقيات الفنية والأدبية، وخاصة ما يقدمه ملتقى الشعراء العرب برئاسة الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد؟
أحترم جميع الملتقيات الأدبية والفنية، ولدي بصمات ومساهمات فيها. أخص بالذكر ملتقى الشعراء العرب، مؤسسه ورئيسه الأخ والصديق الأستاذ الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد، الذي أقدّره احترامًا كبيرًا.
شكرًا للأستاذة مي خالد على هذا الحوار القيم والشائق، ولجميع القراء الذين يهمهم الإبداع والفن والثقافة.
ملفينا توفيق أبو مراد
عضو اتحاد الكتّاب اللبنانيين
2025/8/26