غربة الوجود وغربة الحدود: جدلية الأبوة الشعرية بين الانتماء والافتراق:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
تُعدّ الاشتغالات في الوعي الجمالي والمعرفي للشاعر جوهر العملية الإبداعية، إذ لا يكتمل الشعر بوصفه لغة وجدان فحسب، بل بوصفه فعلاً معرفياً ينهض على تأمل الوجود وإعادة صياغة العالم عبر الحسّ والحدس معاً. فالشاعر الحقّ لا يكتفي بأن يرى، بل يُعيد النظر في ما يُرى؛ يحوّل التجربة إلى بنية من المعنى والجمال. ومن هنا تتقاطع الرؤية الجمالية مع الوعي المعرفي لتشكّلا معاً أفقاً كاشفاً، يعيد للشعر دوره الفلسفي في مساءلة الكينونة، وللجمال دوره الحيوي في منح الفكر جناحيه للتحليق في فضاء الممكن والمجهول.
في بنية الشعر العربي الحديث، تتبدّى ثنائية الغربة والانتماء بوصفها إحدى أكثر الإشكاليات حضوراً واشتغالاً في الوعي الجمالي والمعرفي للشاعر. وإذا كانت الغربة، في معناها الوجودي، تمثل افتقاد الكائن لانسجامه مع العالم، فإن غربة الحدود – أي تلك المسافة بين الأجيال الشعرية، بين “الأب” المؤسس و”الابن” المجدِّد – تمثل افتقاد الشاعر لانتمائه داخل اللغة والتراث والهوية الفنية في آنٍ واحد. وهنا تنشأ درامية العلاقة بين الشاعر الابن الذي يسعى إلى إثبات وجوده عبر التمرد، والشاعر الأب الذي يرسّخ مجده عبر الهيمنة الرمزية على الذاكرة الإبداعية.
أولاً: الغربة بوصفها جوهراً شعرياً
يرى جان بول سارتر أن “الكاتب هو كائن منفًى، لأنه لا يجد مكانه إلا في الكلمات التي تفرّ منه”، وهي رؤية تتقاطع مع ما عبّر عنه أدونيس في كتابه زمن الشعر حين قال: «الشاعر يعيش في المسافة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون». هذه المسافة، هي عين غربة الوجود التي تدفع الشاعر إلى تأسيس عالم بديل من اللغة، عالم يوازن بين نقص الواقع وامتلاء الحلم.
فالشاعر، في أصل تكوينه، كائنٌ مخلخل التوازن، يسكنه شعور دائم بالاقتلاع، سواء من الأرض أو من الذات أو من اللغة. لذلك تصبح القصيدة، كما يقول بول فاليري، “محاولة لبلوغ فكرٍ يليق بمقام الروح”، أي أنها تعويضٌ معرفيّ عن فقدٍ وجوديّ لا يُحتمل.
ثانياً: الأب والابن في الحقل الشعري — السلطة والتمرّد
إن العلاقة بين الشاعر الأب والشاعر الابن ليست علاقة وراثة بقدر ما هي علاقة صراع رمزي. فـ”الأب” هو الموروث، الحارس على قداسة الشكل والمعنى، بينما “الابن” هو الباحث عن حريته في كسر هذه القداسة. وقد عبّر هارولد بلوم في كتابه الشهير قلق التأثير (The Anxiety of Influence) عن هذه الجدلية بقوله: «لا يكتب شاعر عظيم إلا في ظلال سلفٍ عظيمٍ يطارده ويقاومه في آن».
فالابن حين يكتب، إنما يحاور سلطة الأب ويقتات من مجده حتى ينسلّ من ظله. وهنا تنشأ غربة الحدود: غربة الجيل الجديد عن مرجعياته التي صارت عبئاً جمالياً ورمزياً.
وقد تمثّلت هذه العلاقة في الشعر العربي الحديث بين ت. س. إليوت العربيين، إن صحّ التعبير: بدر شاكر السيّاب وأدونيس. فالسيّاب كان يبحث عن خلاصه في استعادة الطفولة والأسطورة والروح المفقودة، بينما أدونيس تجاوز “غربة المكان” إلى “غربة الكينونة”، معلناً أن الشعر ليس انتماءً إلى تراث، بل تأسيس لتراثٍ آخر. هنا يتحول الصراع إلى جدلية وجودية وجمالية بين صوت يسائل الماضي وصوت يستشرف المستقبل.
ثالثاً: الغربة كوعي جمالي وتاريخي
في ضوء هذه الرؤية، تبدو الغربة في الشعر الحديث ليست حالة شعورية فحسب، بل وعيٌ نقديّ بالانفصال عن النمط. فقد عبّر عبد الله العروي عن هذا المعنى حين قال إن “الحداثة العربية وُلدت يتيمة الأب، تبحث عن شرعية في غياب الأصل”. إن الشاعر الابن – في زمن الحداثة – لا يرث اللغة، بل يعيد اختراعها من رمادها.
وهذا ما نلمسه في تجربة محمود درويش، الذي تجاوز صورة “الأب المؤسس” للشعر الوطني إلى فضاء الوجود الإنساني الأرحب، إذ يقول في جدارية:
«هذا هو اسمك / قالت امرأةٌ وغابت في الممر اللولبي…».
إنه يحوّل الغربة من نفيٍ إلى تجلٍّ شعري، ومن فقدٍ إلى وعيٍ بالمعنى. هنا تكتمل دورة الوعي بين الأب والابن: من الهيمنة إلى التوريث، ومن الغربة إلى التجاوز.
رابعاً: نحو شعرية المصالحة.
ليست الغربة قدراً، بل طاقة خلق. حين يتصالح الشاعر الابن مع ظلال أبيه دون أن يخضع لها، يتحول التوتر إلى خصوبة. فكما قال نزار قباني مخاطباً تراث العربية:
«يا وطني، كُنتَ قيداً فأصبحتَ عشقاً»
تتحول الغربة إلى انتماءٍ جديد، لا يقوم على التبعية، بل على التأويل والإضافة. وهنا تتجلّى الشعرية الحديثة كجسرٍ بين وجودين وحدّين: بين الأب المؤسّس الذي منح اللغة هويتها، والابن الذي أعاد إليها حرّيتها.
خاتمة
إن غربة الوجود وغربة الحدود ليستا سوى وجهين لقلقٍ واحد: قلق المعنى في زمن التحوّل. فالشاعر، وهو يعبر من ظلال الأب إلى ضوء الذات، إنما يكتب كي يخلّص اللغة من تكرارها، والروح من سكونها. في هذا العبور، تتأسس هوية الشعر الحديث، حيث لا انتماء نهائياً إلا للبحث نفسه، ولا أبوة خالدة إلا لتلك النار الأولى التي أوقدت القصيدة في ليل الغربة.