«للجنون فنون»: منار السماك وسؤال الوعي في زمن الآلة*
___
من بين الأصوات الأدبية التي استطاعت أن تمزج بين الحسّ الإنساني العميق والوعي الاجتماعي والفكري المتقدّ، تبرز الكاتبة والشاعرة البحرينية منار السماك بوصفها نموذجًا للمرأة المثقفة المنخرطة في قضايا مجتمعها، والواعية بدور الأدب في كشف أزمات الإنسان الحديث. فهي ليست كاتبة فحسب، بل ناشطة ونقابية وعضو فاعل في مؤسسات أدبية وثقافية متعددة، منها أسرة الأدباء والكتاب البحرينية، واللجنة الوطنية للمتقاعدين، والمنبر التقدمي، ومختبر سرديات البحرين، وملتقى الشعراء العرب، وغيرها من الملتقيات التي جمعت فيها بين الفكر والإبداع والموقف الإنساني.
عرفت منار السماك بحضورها المميّز في المشهد الأدبي الخليجي والعربي، فهي شاعرة وقاصة ومثقفة نسوية، حملت هموم المرأة البحرينية والعربية، وكتبت بجرأة عن واقعها وأسئلتها، كما شاركت في العديد من الورش والندوات والمؤتمرات المحلية والعربية، ناقلةً رؤيتها حول علاقة الأدب بالحرية، والفكر بالتحرر، والمرأة بالهوية.
في روايتها «للجنون فنون»، تدخل السماك منطقة شديدة الحساسية من الوعي الإنساني المعاصر، حيث تختلط الذات بالآلة، والواقع بالافتراض، والمنطق بالجنون. هنا لا تكتب الكاتبة عن المستقبل، بل عن الحاضر الذي صار مستقبلًا قبل أوانه، حيث التكنولوجيا تسكن الإنسان، لا العكس، وحيث تتحوّل الشاشة إلى مرآة تُعيد إنتاج الذات في أشكال رقمية متعدّدة.
الرواية تُعيد مساءلة العلاقة بين الإنسان ووعيه في زمن السرعة، بين “الأصدقاء الافتراضيين” و”الترند” و”الذكاء الاصطناعي”، لتصوغ عالمًا تفاعليًا يعيش فيه الإنسان بين الدخول والخروج من الآلة، بين الأنا والآخر، بين الواقعي والرقمي. في هذا الفضاء المتشابك، تخلق منار السماك شخصيات رمزية مثل بهلول الفيلسوف المارق على السائد، وماركة الجنون التي تمثل السخرية من عبث الواقع، وجامعة العباقرة الفارغة التي تحاكي هشاشة المعرفة الحديثة.
الكاتبة لا تكتفي بالسرد الواقعي، بل توظّف الرمز والفانتازيا والفلسفة في بناء روايتها، مما يجعل النصّ أقرب إلى رواية تأملية في معنى الوعي الإنساني. فالسخرية هنا ليست ترفًا فنيًا، بل أداة نقدية، تكشف تناقضات الحضارة الرقمية التي منحت الإنسان أدوات التواصل وحرّمت عليه التواصل الحقيقي.
تتنوّع مستويات القراءة في هذا العمل؛ فهو من جهة نص اجتماعي نقدي يرصد مظاهر العزلة والانفصال الإنساني في عالم الإنترنت، ومن جهة أخرى عمل فلسفي رمزي يعالج إشكالية الوجود في ظلّ الذكاء الاصطناعي. كما يطرح تساؤلات وجودية جريئة:
من يملك الوعي الحقيقي؟ الإنسان أم الآلة؟
هل فقد الإنسان قدرته على التفكير الحرّ حين فوّض الآلة أن تفكر عنه؟
وهل صار الجنون، في زمن العقل الإلكتروني، شكلًا من أشكال المقاومة؟
بهذه الأسئلة، تفتح السماك نصها على أفقٍ معرفيّ متعدّد يجمع بين الفلسفة والفنّ والواقع، وتضع القارئ أمام مرآة ذاته، ليكتشف أن الجنون ليس نقيض العقل، بل ذروته حين يصبح الوعي عبئًا في عالمٍ بلا روح.
رواية «للجنون فنون» هي صرخة ضدّ الاغتراب، وإدانة لزمنٍ صار فيه الإنسان محاصرًا بشاشته، يعيش ألف صداقة بلا صديق، ويغرق في بحر الصور دون أن يرى وجهه الحقيقي. بأسلوب ساخر وبلاغة عميقة، تنسج منار السماك نصًا يجمع بين الفلسفة والخيال العلمي والواقعية الرمزية، لتقول إن الفنّ هو الجنون الجميل الذي يذكّرنا بإنسانيتنا، وأن الأدب ما زال القادر على أن يواجه الزمن الرقمي بالوعي والجمال معًا.
بهذا العمل، تواصل منار السماك مشروعها الأدبي والفكري في تفكيك الواقع المعاصر وإعادة بناء الوعي الإنساني على أسس الحرية والإبداع، لتثبت أن الكاتبة العربية قادرة على أن تكون صوتًا فنيًا وفكريًا وإنسانيًا في آنٍ واحد، وأن الجنون — حين يكون وعيًا — هو أرقى أشكال الفن.
__
*جنان خريباني
عضو ملتقى الشعراء العرب



















