الصهباء
هديل الشمس يقرع الصمت عند الغروب. يتوارى نورها الهزيل في عناقيد تدلت بغرور عند السقف الرمادي. القت بثوبها الناري فوق خشب الطاولات المتلاصقة ببعضها البعض بحثا عن دفء انفاس هرولت نحو اللاوجود. الشغف يسبق ارواحا دفنت قهرها ووجعها عند الرصيف الرمادي وامتزجت بتلاوين الغفوة …لا صحوة، ابتعدت مع عقارب الزمن نحو ماض جميل أفل نجمه.
نزلت الصحون تزين الطاولات بالوان سحرها تمتص الشهية بفخامة اريج مطبخها.
رنين الكؤوس يروي الهذيان الناعم في النفوس الظمأة لألف ليلة وليلة، واهازيج الاشواك والسكاكين تراقص جوف الجوع في النفوس الساخرة من دوامتها.
ساحر يركن في زاويته لا يتخلى عن كمامته السوداء. يراسل بانامله أغاني الماضي الجميل عربي واجنبي يترك كل بصماته في الآهات المخنوقة. تتلوى الخصور فوق المقاعد الضيقة وتذوب. تتجرأ عيون النساء بضحكتها المجنونة في كسر القوالب المعلبة باللاء. تصدح الأقدام بعفوية جنونها وتزغرد الأرداف. تهيم الارواح فوق غيم الدخان وتلاقي ما وراء السماء. وتلوح الأيادي حرة للمرة الأولى وربما الأخيرة.
غجرية ساكنة بين عواميد النار تغني بدلال لحبها، تطلق جناحيها وانكسار الدمع يتناثر قطع زجاج فوق البلاط البارد يرسم لوحة المها الدفين في ثوب الزفاف الاسود.
تلوح بيديها عاشقة للنغم المنساب في روح زرياب النائم في الفيافي الباردة.
الصهباء ذات الشعر القصير تتباهى بانوثتها، تفرش كل تمردها في زخارف فضية فوق الحاجبين، تعلن بصوت خافت “خنقها حبل الإعدام المتدلي من سقف ديار الرجم بالحجار” عن براءتها من الغدر والخيانة والجحود من تراثها المعلق في سقيفة منزلها المتداعي.
يلتقط حبيبها روحها بين ضلوع صدره، يحميها من السقوط من فوق الجرف في بحر اوهام المساء، يعانق عطره رقبتها، تزهو بحبه مجنونة بسطور بسمته وتنادي العرافة في كهفها المرصود، أنا هنا أعلن توبتي وحبي، أنا هنا أستعيد طفولتي فقد اشتقت لصوتها الهادئ يتراقص على أوتار القيثارة، تهويدة النوم الدافئ لحضن يمسح الدمع لمن قهرها التنمر. أعرف أنا الجميلة في عينيك العسليتين. أراك في كل كلمة وخطوة ارتشف من ريق شفتيك المدام فأسكر.
هنا في هذا الزقاق الضيق، في شارع الحمراء الذي ادماه رحيل الأحبة الى ما وراء البحار والمحيطات…بعض صقيع شتاء نسي التنور ومناقيش الزعتر المحروق بنار الحياة…وفرو قطة هاربة من حقيقة يقرأها العراف في خطوط اليدين.
ريح الليلة يلامس الوجنتان بدلال، دفء الإنسان ينير ظلمة الغد والدروب تستنير بنور شمعة وحيدة ستنطفئ بعد دقائق.
في قعر الكأس قصة وربما ألف قصة لن يصطادها بحار عشق ولا راوي حكايات.
لوحة للرسامة اللبنانية فاطمة مرتضى.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي