حادثة حدثت معي :
على مدخل البيت ذي الممر الطويل نسبياً ، والذي كنا نجلس فيه تحت شجرة رمان تجاورها شجرة زيتون صغيرة تنسجم مع مساحة الأرض الصغيرة التي يقوم عليها بناء من منزلين احدهما يسكنه أخي مع عائلته ، لكن عند المساء وفي ساعات الترويح لا فرق في الجيره فالجميع كأنهم يسكنون بيتاً واحداً، وخلال جلوسنا المسائي في هذا الممر رأيت امرأة صغيرة الحجم تحمل صُرةً على رأسها، وتتخذ زاوية قرب المدخل وضعت صرتها على الأرض وجلست فوقها وأسندت رأسها على يدها وبقيت ثابتةً لمدة تثير التساؤل .
كنا نجلس في نهاية المدخل وشجرة الرمان ليست كبيرة، لكن ظلها مع سور المدخل والبيت يكفي لتخفيف حرارة الشمس عنا . بدأ منظر المرأة يثير في داخلي فضولاً ممزوجاً بشفقة تتزايد وقلت لمن كان حولي : سأذهب وأكلّمُها ، لكن قراري لم يحظَ بتأييد كافٍ، إذ من الممكن أنها ترتاح قليلاً ثم تذهب لشأنها ، لكن قلبي لم يُعجب بهذا الرأي وكان لابد أن أذهب إليها ، وذهبت ، نظرت إلى وجهها ، لم أعرف أن أميز أي ملمح: وجه جاف تملؤه غضون الأيام وعينان كأنهما تحتاجان إلى قليل من الدمع كي تتمكن من فتحهما وإغلاقهما من دون أن تتمزق أجفانها ،
- سلامتك يا خالة ، هل بك شيء ؟ هل أنت تعبانة ؟ وبعد صمت منها وتشجيع على الكلام مني قالت لي : عطشانه ، هل تسقينني يابنتي ؟ وركضت أحضر لها الماء ، ولما شربت أمطرتني بالدعاء وقلت لها :
- يا خالة ، إن كنت جائعة أخبريني ، أومأت برأسها ، فركضت مرة ثانية إلى المطبخ وكانت زوجة أخي قد أعدت طعاماً شهياً فسكبت لها وأكلت وبعدها أمطرتني مرةً ثانية بالدعاء ، وبعد صمت قليل ، قالت لي : يوم أمس كله لم أذق الطعام ، كنت جائعة ، وفقك الله يابنتي . الفضول الذي في داخلي لم يصمت ولم يهدأ بل تزايد وكان لابد من أن أسألها :
- ما قصتك يا خالة من أين أنت وأين بيتك ؟
- نظرت في وجهي بعينيها الجافتين الخاليتين من أثر الدمع وكان ماحول فمها يرتجف ثم قالت : ليس لي بيت ، كل ماكنا نملكه أخذه ابني الوحيد بعد موت أبيه ، باع البيت والأرض والزيتون واشترى بيتاً لزوجته وبعد أن صار عندها ولد لم تعد تريدني في البيت . بدا كل مافيها يبكي ، يداها وجسمها وأخاديد وجهها ، شفتاها وما حولهما ، إلا عيناها فقد كانت كل عين مفتوحة مثل حفرة ليس فيها غير الرمل أو هكذا خُيّل لي .
- يا خالة ، عودي إلى بيت ابنك فقد يكون الآن مشغولاً عليك ولا يعرف أين أنت .
- لا .. أي شيء أهون من العودة ، إنه لا يقدر أن يقول شيئاً ، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً،( زوجته الرجّال وهو المره ).
- وماذا ستفعلين يا خالة ؟
- هذه الأيام صيف ، وهذا لحافي معي في أي مكان أتغطى به وأنام
- هذه الأيام صيف ، ماذا ستفعلين في البرد ؟
- إن الله كريم وسيفعل مايراه مناسباً .. يا بنتي رح أطلب منك طلب بس ما تتضايقي مني
- لا يا خالة مارح أتضايق ،
- بالله عليك ترفعي لي ( رفيشة كتفي ) شعرانة فيها نازلة من مطرحها
- وقفت وراء ظهرها وعملت كل شيء يمكن عمله حتى طلبت مني التوقف ثم طلبت مني أن أساعدها في حمل لحافها ، ولم يطل وقوفها، خرجت من المدخل وهي تدعو لي. عدت بصحن الطعام إلى المطبخ. أخذت أغسل يدي، لم أشعر أنني أغسل يدي من ملابسها المتسخة أو من جسدها الذي لامسته بيدي ولا من كتفها المنهك المائل باتجاه الأرض، لكنني شعرت أنني أغسلهما من ابنها وزوجته .
في الصيف الذي تلا صيف لقائي بها سألت عنها ، لكن الجميع أكد أن أحداً لم يرها ثانيةً . فجأة وجدت نفسي أدخل إلى المطبخ وأغسل يدي تماماً كما غسلتهما الصيف الفائت من ابنها وزوجته .
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي