الغريق…
صراخه المتواصل لم يجعل أحدًا في البيت ينام، ذلك “النونو” ذو التسعة أشهر فعل بالبيت الأفاعيل ينام نهارًا ويستيقظ ليلاً كأن به شيطانًا أو تلبسه عفريت، قالت الأم: لقد وقع على أرض نجسة، وقع من يد أخته الكبرى … على أرض نجسة لابد أنه “التحتاني” ، هذا هو ولدهم وعلينا أن نعيده كي نستعيد ولدنا من عالمهم، حسم الأب الأمر وأخذه إلى الطبيب.
بعد أن تفحصه قال:
- ليس به علة
ردت الأم: - لقد وقع لابد أن به عظامًا مكسورة!
- لا ليس به علة، هو صغير عظامه ألين من أن تكسر، لكن حين يكبر ويشتد عوده سوف تكسره الدنيا، أما الآن … فلا.
ثمان سنوات من الأحلام والكوابيس وزيارة الأطباء والأولياء ولم ينجبا سوى البنات، ثلاث بنات وأخيرًا جاء الولد لكنه وقع، نعم وقع على أرض نجسة، أشعلوا له البخور قام الشيخ برقيته، وكان الصراخ يزداد ليلا ً، كبّروا في أذنه اليمنى، أقاموا الصلاة في اليسرى، أي نوع من الجن هذا الذي لا يحرقه القرآن ولا البخور، ربما كان جنًا مسلمًا!
لا، لقد جاء إلينا بالخطأ وعلينا أن نعيده إليهم، كي نستعيد ولدنا … مازالت الأم تكرر ….
خذوا ابنكم وأعيدوا إلينا ابننا، كانت العجوز تردد قولها وهي تغطسه في “الترعة”، كاد يموت اختناقًا، جذبته جنية القاع من قدميه الصغيرتين، وجذبته العجوز من يديه، فاكتملت الحلقة وتم الاتصال، فرأت شابًا يحمل أثقال الدنيا يسبح بها إلى الضفة الأخرى، وعندما شعر بالغرق قذف بحمله إلى البر قبل أن يستسلم لنهايته، الناس على الشاطئ أخذوا الحمل ومضوا، أرخت العجوز قبضتها قليلاً لترى أكثر…
كان وسيمًا، وكانت جميلة تحمل ديوانًا للشاعر الذي يحبه، سبحا معا تزوجا أنجبا، ولكن بعد أن التهمت النيران آخر قصائد “فاليري”، افترقا.
ملَّا انتظار السيد “جودو”، جاءهم صبي تلو آخر، فساءت الأوضاع، والمعدة لا تشبعها الكلمات، قال لها: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان…!، ردت: ذلك حين كان الخبز وفيرًا، فأمسكت بأول يد امتدت لها وأخرجتها من القاع، وضعتها في سيارة فارهة وانطلقا، تركته وحيدًا مع طفلين حملهما فوق أكتافه، ورغم قسوة الموج وشدة البرد واصل السباحة، وضعهما على ظهره وراح يصارع الأمواج، لم يعجزه الجوع وقسوة الدنيا وتخلي الزوجة والأهل عنه، الضفة الأخرى تبدو بعيدة المنال والخدر يزداد، زراعاه ما عادا يتحملان، وهو واحد لكن إن استسلم … سوف يغرق ثلاثة.
الناس على الجانب الآخر يراقبون، منهم من يحمسه ومنهم من يشعر بالحزن للنهاية الوشيكة، لكن أحدًا لم يمد له يدًا، الخدر وصل للساقين والماء في رئتيه زاحم الهواء، ظهره ناء بحمل الطفلين، بنظرات الناس على الضفة الأخرى، وأربعة أزرع تلتف حول رقبته كل ذلك يدفعه للأسفل، لكن أحدًا لا يمد له يدًا، وهو واحد لكن إن يغرق … سيغرق ثلاثة، فتخلى عن أحلامه كي يتخفف من الحمل، راود الدنيا، فراودته عن نفسه، بكت عليه السماء لكن قطرات دموعها زادت الموج حدة وارتفاعًا، كل شيء يدفعه للغرق حتى المتعاطفون معه الأهل … الأقارب… الأصدقاء …، الثلاث بنات اللاتي يكبرنه يزدن عليه الحمل ويدفعنه للاستسلام، لكنه إن استسلم تغرق الأسرة كلها.
وصل إلى الضفة في الرمق الأخير والكل يشاهد، لكنه أدرك أن أحدًا لن يمد له يدًا، وضع ولديه على البر واستسلم للغرق….
آه … الآن يغرق وحده، الراحة الأبدية والاستسلام للموت شعور جميل، والمقاومة تفسد الأمر، فأغمض عينيه …
تركت جنية القاع قدميه؛ فعاد إلى حضن العجوز التي هالها ما رأت.
عادت به إلى أمه تحمله، وهي تتصنع الفرح:
- أبشري ! الآن عاد ولدك، ولن يصرخ ليلاً
- لك الحلاوة، ولكن لماذا كان يصرخ؟
- لقد وقع، وقع على أرض نجسة، وقع من يد أخته الكبرى، فبدلوه … لكنني أعدت إليهم ابنهم، وإليك ابنك سليمًا معافى.
- لكن …، ألن يصرخ ثانية؟
- أما الآن … فلا، ولكن حين يكبر ويشتد عوده وتقوى عظامه سوف يصرخ حين تكسره الدنيا وتصرعه الأمواج.
تمت
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي