الطريق الى قلبك
بقلم : بلقيس بابو
اعتدت ارتياد ذاك المكان… له سِحرٌ خاص ، سواءً بمفردي أو رفقة بعض الصديقات ، نحتسي فناجين القهوة التي أدمناها منذ سنوات الدراسة، ندردش قليلا ثم تمضي كلُّ واحدة منا إلى انشغالاتها.
كان يجلس منزويا على الطاولة المقابلة لطاولتي، يدخن السيجارة تلو الأخرى، أرقبه ولا أبالي بثرثرة صديقاتي؛ أحدث نفسي قائلة ؛ ليته يتريت قليلا قبل أن يُشعِل التالية و أتخيل نفسي أقتلعها من بين أصابعه حتى تتمكن رئتاه من استنشاق بعض الهواء النقي.
يبدو في الخمسينيات من عمره ، الخصلات البيضاء وبعض التجاعيد الخفيفة يدلان على ذلك ، كان يدفن عينيه بين الصفحات، خلت للحظات أن الكتاب سيلتهمه، لم استطع التوقف عن التحديق به ، أشارك جليساتي ببعض التعاليق حتى لا ينتبهن إلى ما يشغلني ثم أعود فورا لمراقبة الجالس على الطاولة المقابلة لي، حتى لا تفوتني حركة من حركاته ، و لا تعبير من تعابير وجهه التي تتغير بتغيُّر تفاصيل ما يقرأ، أرقب ارتعاش أصابعه كلما حاول كتابة شيء ما على مذكرة صغيرة موضوعة إلى جانب فنجان القهوة .. يبدو أن ما يقوم به يبتلعه ابتلاعا ، فهو لا يشعر بالصخب ، ولا بأحاديث زبائن المقهى ، لا يبالي بالعيون الفضولية المحدقة به، تمنيت لو أستطيع أن ألقي نظرة على ما يقرأ وعلى ما يدونه جانبا. تسألني إحدى صديقاتي عن رأيي في ما يقلن ، الصدق أني لم أسمع شيئاً.
-فعلا جميل . أجبت دون أعرف عما كن يتحدثن
- ما بك اليوم ، تبدين شاردة الذهن؟
-لا شيء مهم ، بعض الصداع.
ليتهن يتركنني بسلام ، و ينصرفن إلى حال سبيلهن.
عيناه تبدوان متعبتين ، لعله لم ينم جيدا الليلة الماضية ، شيء ما يؤرقه، أو عملٌ مجبر على إنهائه في آجاله ، تُرى .. ما تكون وظيفته؟ كاتب ؟ صحفي؟ باحث؟ أم ماذا؟..
ثم ألوم نفسي ، وما شأني أنا به ؟ ما الذي يجلعني أكترث لهذا الغريب ؟
أحقّاً غريب ؟
أشعر كما لو كنت أعرفه قبلا .
يخبرني حدسي أنه شخص طيب، حنون، رغم عزلته و رغم عصبيته الواضحة من خلال عدد السجائر التي يدخنها، من ارتعاش يدَيْه ، من زفيره العميق ، و فركه الدائم لجبينه مستعملا خِنصِره و بِنْصِرهِ، فأصابعه الأخرى لا تترك السيجارة أبدا و يده اليمنى لا تفارق القلم، أحلم لو أعرف ما يكتبه ، أتساءل إن كان بإمكاني مشاركته طاولته وأفكاره، قراءة مخطوطه و مناقشة كتابه ، أو ربما الغوص في أغوار عالمه المشوِّق.. شعرت أن ذلك قد يكون رائعا…
لكن .. هل يجوز ذلك؟ هل يمكن لامرأة أن تقتحم عالم رجل وحيد، ثم تسأله لتشفي غليل الفضول ؟ ولما كل هذا الفضول ؟ لم يكن من عادتي أبدا الانشغال بأحد….
تستأذن رفيقاتي الواحدة تلو الأخرى للانصراف، يغمرني التفاؤل، سأكلمه، سأتعمَّد المرور قربه متعللة بالذهاب لغسل يدي، علنّي أرمق عنوان الكتاب أو ربما أسترِّق النظر الى مذكرته، لأكشف بعضا من أسراره،
لم يسبق أن حدث لي هذا من قبل، كأن قوة خفية تجذبني و تسيطر على تفكيري ، على كل كياني، تُلِّح عليَّ لمعرفة عالمه الخفي.
لم يرفع عينيه أبدا رغما أني أجلس في الطاولة المقابلة له ، لم تلتقِ عيوننا قطُّ ولو في نظرة قد تمدُّني بالمزيد من الأخبار عنه.
سأذهب إليه . وما البأس في ذلك ، سأستأذنه بطريقة لطيفة رغم أني أعرف أنه سيوَّدُ قتلي لحظةَ أقطع حبل أفكاره المسترسل من ساعات.. -مساء الخير ..
رفع جفنيه الكسولين ببطء و عيناه المحمَرَّتين من السهر وسحابات الدخان حوله و كلهما أسئلة حول ماهية هجومي تلك اللحظة على خصوصيته.. - نعم؟ أستطيع المساعدة ؟
أربكتني نظراته ثم سؤاله لكنني لملمت فتات شجاعتي وبعض ما بقي من جرأتي..
-لو سمحت أوّد لو أعرف عنوان الكتاب الذي بين يديك ؟ و إن أمكنني اقتناؤه.. - لا يباع..
تبسم وهو يرى ملامحي المصدومة و يرمق تلون وجهي بألوان الطيف ..فأردف قائلا ،
-أمن أجل ذلك كنت تراقبينني طوال الوقت ؟..
لم يزدني سؤاله إلا ارتباكا، احمرَّت وجنتيَّ حتى كاد ينفجر الدّم منهما و لم استطع أن أنبس بكلمة مخافة أن يسمعَ صوت نبضاتي المتسارعة… - اجلسي…
ياللهول ..إنه يدعوني لطاولته ..كنت كمن أُفْرِغ فوق رأسه كيس من مكعبات الثلج …
-اجلسي … الكتاب لايباع لأنه لم يطبع بعد ، مازال بصدد التصحيح و التنقيح …
-أهو لك؟
-أجل.
-رائع، عمّا يتحدث؟
يضحك من حماسي غير المبرر ، أنا نفسي لا أعرف سببه… - اسمه ، “الطريق الى قلبك” إنها رواية . أخذ قلمه و انتزع ورقة من مذكرته، كتب بخط جميل :
<< إلى غاليتي الفضولية ( الطريق إلى قلبك ) >>
هذا إهدائي لكِ ….
دَسَّ الورقة في يدي و أنا أجلس حائرة بين فرحي و ذهولي..بين اندهاشي و شرودي
أعادني فجأة للحظة..
- تريدين قهوة ؟
-فنجاني مازال هناك، سأجلبه.. اتجهت إلى طاولتي، أخذت حقيبتي و حملت فنجاني لأعود إليه سريعا ..
لم يعُد هناك، لقد رحل .. أسقطت دون أن أشعر كل ما بيدي ؛ الحقيبة و القهوة ….
لم تمض سوى بضع ثوانٍ !!! لا تكفي حتى ليضع معطفه على ظهره،
كيف استطاع ان يرحل في لحظاتٍ لا تستوعب أن يحمل كتابه و مذكرته ولا حتى لأن يضع قلمه الفضي في الجيب الداخلي لسترته ..
لحظات لا تكفي ليصل الى باب المقهى..حتى فنجان قهوته لم يعد هناك، هرولت نحو الباب الواسع ألقي نظرة هنا وهناك علَّني أرمق طيفه منصرفا،
أو ألمحه، يفتح سيارة أو يستقل سيارة أجرة …لا أثر له بالمكان.
سألت حارس الأمن الخاص بالمكان ، كمَنْ يبحثُ عن طفلٍ تائه.
أكدَّ أنه لم ير أحدا
عدت إلى الداخل، أبحث عن النادل الذي كان يخدم طاولته، عساه يعرفه أو يعرف كيف اختفى في ثوان.. - لو سمحت، هل تعرف أين مضى ذاك الرجل الجالس هنا منذ ساعات ، صاحب الكتاب و المذكرة و سحابة الدخان ؟ …
اتسعت عيْنَا النادل فأُرْدِف وأنا أشير الى الكرسي ،..
-ذاك الرجل الذي ظل يقرأ وحيدا لساعات ، ذاك الذي كنت أحدثه قبل قليل ،
نظر إليّ النادل نظرة غريبة، كأنه يتصفح جريدة بلغة أجنبية.
-سيدتي ، هذا الكرسي و هذه الطاولة فارغان منذ الصباح ، لم يجلس أحد هنا قط…
-لكنني كلمته..
-ظننتك تريدين تغيير مقعدك سيدتي ؛ لم يكن هناك أحد منذ بدأ دوام عملي فجراً …
أقر النادل منصرفاً..
لا أعرف ما يمكنني تصديقه ، أمسك بجبيني حتى لا يُغمى عليّ و إذا بشئ يخدشني ، إنها الورقة الصغيرة بيدي
وقد كتب عليها ؛
إلى غاليتي الفضولية ( الطريق إلى قلبك ) .
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي