قصة قصيرة
حتى لا تستيقظ الدواجن شهيدٌ آخر في فلسطين المحتلة يرتقي وسط شجب وتنديد عربيين. كان هذا موجز الأنباء، والآن مع آخر الاستعدادات للديربي، الحصون الدفاعية للفريقين على أهبة الاستعداد، والكلمة الأخيرة للمهاجمين، من يدك حصون الآخر، شارك بإرسال إس إم إس إلى الرقم الموجود أسفل الشاشة.
تنهال الرسائل والأموال والإعلانات على القناة، ومن يتكهن بالنتيجة الصحيحة يحصل على تذكرة لمشاهدة مباراة فريقه المقبلة في الاستاد.
صورتها وهي تحمله وعلى وجهها ابتسامة شموخ ونظرة كبرياء تخترق حشود المشجعين: الشاب الذي لم يتجاوز العشرين دوخهم، أجهزة عديدة احتشدت، جيش الدفاع والشاباك والموساد وإعلام يرى بعين واحدة، و100 جندي مدجج بالسلاح، حاصروه لم يستسلم لم يترك البارودة شرفه، وليدي الصغير زلزل كيانهم، مات والبارودة في يده. الصورة تكافح كي تظهر لكنها تتوارى سريعًا ويغطى عليها صياح حشود مشجعي الفريقين المتنافسين.
يا أمه: إن ولي الأمر أوصاني بك خيرًا؟
- لست لك بأم، ولدي مصلوب بالكعبة، أخبرني أنه مقتول فى يومه هذا، ورجاني ألا أحزن، تخلى عنه أهل مصر والشام، وحشود الشيعة الباكين عند ضريح الحسين، والخوارج الذين يكفرون القاتل والمقتول، الجميع قد هادن الروم واليهود وأخلد للراحة.
خارج الكادر ظل وحيدًا يقاتل، وأبو تمام ينشد في حضرة المعتصم:
فتى مات بين الطعن والضرب ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصرُ
وَقَد كانَ فَوتُ المَوتِ سَهلاً فَرَدَّهُ إِلَيهِ الحِفاظُ المُرُّ وَالخُلُقُ الوَعرُ
وَنَفسٌ تَعافُ العارَ حَتّى كَأَنَّهُ هُوَ الكُفرُ يَومَ الرَوعِ أَو دونَهُ الكُفرُ
فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشرُ
لكن حاشية المعتصم ناموا دون أن يكمل أبو تمام قصيدته، كانوا يحلمون بالجواري والسبايا والغنائم، قفز أحدهم إلى أذن المعتصم هامسًا: وصية المأمون، لا يقول الناس هزم خليفتين، فأرسل الحراس لإحضار ابن حنبل، وعادت الفتنة: هل القرآن مخلوق أم أزلي؟
بكى سجان ابن حنبل، مسح دموعه بيده اليسرى وفي اليمنى حمل السوط: هذا أمر ولي الأمر، وأنا مأمور في رقبتي زوجة وعيال، فلتسامحني يا إمام.
عدل رجل الدين التقدمي وضع عمامته على رأسه، وتوجه إلى الشيخ الجالس على الطرف الآخر من الطاولة: ابن الزبير غير عالم بأمور السياسة، وابن مروان حاكم متغلب، الحسين شق عصا الطاعة وخلق الفتنة، وابن حنبل متشدد مارق ألم يسمعوا قوله تعالى (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم).
صاحب القناة لفريق الإعداد: نسبة المشاهدة تدنت، فانتقلوا إلى موضوع آخر.
وأدت العرب البنات في الجاهلية مخافة أن يخلفوا عليهن من لا يستطيع حمايتهن، فيأتي من يسبي النساء والبنات ويصرن جاريات أو محظيات عند الأعداء.
تركوا الأولاد حتى صاروا من كثرتهم كغثاء السيل، وهناك من تطوع للقيام بدور الأنثى، قابلوا الأعداء بالرقص والغناء وأكاليل الغار، محت كتب النحو العربية جمع المذكر السالم، لأنه لم يعد سالمًا، تسربت إليه بعض ملامح الأنوثة، وأدب النسوية شكل وجدان الأمة.
الضيفة النسوية: هذا مجتمع ذكوري متخلف.
ثم بعد أن عدلت فتحة فستانها ليظهر ما كان مخفيًّا: الرجل العربي ينظر إلى المرأة على أنها وليمة للسرير.
خطف اليهود أختهم الصغرى، لكن غثاء السيل أوهن من أن يحدث أمرًا، فاكتفوا بالاحتجاج عند العصبة التي منحت العصابة وملكتها، شطرت لهم الأرض نصفين.
اجتمع التقدميون والرجعيون، أزبدوا وأربدوا ووصلوا إلى قرار حاسم يقضي بإمهال العدو حتى يثبت حسن النية، عرضوا عليه السلم واستسلموا للدعة والوداعة.
الضيفة النسوية: هذا هو سلوك الشعب المتحضر.
الشيخ: رد العدو على مهلتهم وأثبت حسن النية في: دير ياسين، والحرم الإبراهيمي، وفي الجهة الأخرى طائفة من الأمة لا يضرهم من خالفهم ولا يزالون ظاهرين على الدين قاهرين لعدوهم.
الضيفة النسوية: ذلك والله إرهاب ووحشية.
الخبير السياسي: لقد أضاعوا كل الفرص السانحة للجلوس والحوار.
الضيفة النسوية مؤكدة: الحوار… نعم ، فذلك فعل المتحضرين.
الشيخ: لا تنصتوا إليهم ولا تتركوا السلاح.
التاريخ تصنعه السينما؛ فطلبوا من مخرج وسيناريست فاشلين صناعة فيلم حربي كي يهدأ صخب العامة، زحفت الجيوش إلى الأمام لكن رصاصاتهم كانت تتجه إلى الخلف.
اتصل المنتج بالمخرج غاضبًا: هناك مجموعة لا أعرف عددهم 3 أو10 أو 100، كبدوا الحليف خسائر فادحة، وأرغموه على الفرار.
- لا تقلق يا سيدي كل شيء تحت السيطرة.
- حاول أن تتدخل وبسرعة لإيقاف هذه المهزلة، لا نريد محرقة أخرى.
في جنح الليل وفي مشهد غدر تقليدي، أطلق أحد الكومبارس رصاصة سكنت قلب البطل الخارج عن نص الفيلم، مات البطل، بكى قاتله ندمًا: لم أقصد، ذلك أمر المخرج، وأنا داجن في رقبتي زوجة وعيال.
جرت أحداث الفيلم وفق السيناريو المكتوب.
انتهى الفيلم، شاهده الناس صدقوا ما فيه، لم يكن في الإمكان أفضل مما كان، ولأن المنتج بريطاني والمخرج أمريكي نجح الفيلم ووزع في كل نواحي الدنيا.
صاحب القناة: كان ذلك رائعًا، حققنا نسبة مشاهدات قياسية، لكن لماذا الفيلم الدرامي لدينا، صار كوميديًّا في نظر الغرب؟!
- لأنه يا سيدي افتقد الحبكة وكسر المنطق الدرامي لتسلسل الأحداث.
- حسنٌ، لنعد مرة أخرى إلى البرامج.
الأديب: نحن شعوب تميل إلى البكاء، قضيتنا حائط مبكى تلهم الكتاب والشعراء، ومادام هذا الحائط موجودًا سيظل الإبداع، فلا تحاولوا هدمه كي يستمر البكاء والإبداع.
الناقد: نعم، يضربنا الأعداء فنكتب، يغتصبون نساءنا فنكتب، يقتلون أطفالنا فنكتب، ولن نتوقف عن الكتابة أبدًا، فالإبداع يولد من رحم المغتصبات.
الضيفة النسوية: هذا سلوك الشعب المتحضر، المتنبي ارتعشت يده وأسقط سيفه ومات دون قتال فصار كبير شعراء العربية، والله لقد كان (so cute) سو كيوت.
الخبير السياسي: هذا نهجنا نقابل العدو بالكلمات، وخيار السلام لا يزال مطروحًا في ظل اتفاقية أوسلو وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، يجب أن نمنحهم الفرصة كي يثبتوا حسن النية.
الشيخ: فأثبتوها في دير ياسين، وخان يونس، وبلدة الشيخ، والطنطورة، وقلقيلية ومذبحة الأقصى، و…..، و…….. و……
اجتمع المنتج والمخرج، فالجزء الأول حقق نجاحًا غير مسبوق، فلننتج جزءًا آخر حتي تستمر الجماهير تصفق ويستمر الخدر في الوجدان ولا نتركهم لحظة للتفكير فيفيقوا من تأثير الوهم عليهم، لتكن ملحمة أرسطوطالية وليذهب بريخت إلى الجحيم، لنعد بناء الحائط الرابع، ونجعلهم مصدقين لكل ما يدور من أحداث تفتقد المنطق الدرامي، من تلقاء أنفسهم مع الاندماج في الفيلم سيعطلون إراديًّا عدم التصديق.
الجزء الثاني يثور مقاتلو الحرب الزائفة على الأنظمة الرجعية ظاهرة العمالة، الحبكة تستلزم ذلك، لابد من تقديم وجوه شابة يصدقها العامة ويعشقها الناس، ولنمنح كل وجه منهم شخصيتين، شخصية وطني ثائر، وفي الباطن عميل متخفٍ (under cover)، هذه النوعية تلقى رواجًا وقبولاً عند الناس، وليخوضوا حروبًا زائفة أخرى، تزحف جيوشهم إلى الخلف، ويهرب الجنود ويستمر الزحف إلى الوراء، ونكسب أرضًا جديدة وجمهورًا جديدًا.
يتصل المنتج بالمخرج، وهو يشتاط غضبًا: والله إنك مخرج فاشل حقًا، لقد فعلوها ثانية وخرجوا عن النص.
- لا تقلق يا سيدي، كل شيء تحت السيطرة.
- والله، وكيف هذا؟ هذه المرة لن يجدي مشهد الغدر التقليدي نفعًا.
- لا تنس أن لكل منهم شخصيتين، في ذروة التصاعد الدرامي للأحداث، سيكشف العميل المتخفي عن وجهه الحقيقي، وتأتي الضربة.
- ولكن ماذا عن الانتصار الذي حققوه؟
- سيتم اختزاله في أغانٍ وأفلام، ولنعطهم بعض الفخر وكثير من اليأس.
نجح الجزء الثاني وأصاب الناس بالنشوة الزائفة واستمرت الغيبوبة، وانتشرت الأفلام، والأغاني أصبحت مصدر فخرهم الوحيد، لكن اليأس المتغلغل في أنفسهم جعلهم يؤمنون بالسلام غير المشروط:
بالسلام احنا بدينا بالسلام
ردت الدنيا علينا بالسلام.
الخبير السياسي: هذا هو المنطق السليم، الحروب لا تحقق شيئًا.
رجل الدين التقدمي: هذا هو الإسلام الوسطي، الرقي في أبهى صوره.
الشيخ: لكنهم يحرقون الأرض، وإراقة الدماء لم تتوقف.
المخرج: أسمع الناس أغاني فيروز:
الأرض لنا والقدس لنا والله بقوته معنا
وجموع الكفر قد اجتمعت كي تهزمنا لن تهزمنا لن تهزمنا.
الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان
الغضب الساطع آتٍ سأمرُّ على الأحزان
من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ
وكوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آتٍ.
الضيفة النسوية: يا سلام، الفن أقوى من السلاح.
الشيخ: لكن القدس والأرض لم يعودا لنا، والغضب الساطع لم يأتِ أبدًا.
رجل الدين التقدمي: هذه شيفونية ممقوتة.
الخبير السياسي والضيفة النسوية مؤيدين رجل الدين التقدمي: طبعًا، شيفونية شيفونية واضحة.
اجتمع صاحب القناة بفريقه: هنيئًا لكم يا سادة، قد حققنا أرباحًا خيالية، والعامة أصبحت طوع البنان، فكلهم صاروا إما أحفاد سجان ابن حنبل أو أحفاد الكومبارس قاتل البطل الخارج عن النص، لن نبذل مجهودًا في إنتاج أفلام لتغييب الوعي، فلم يعد هناك وعي.
المخرج: ولكن ماذا سأعمل الآن؟
- لا تقلق يا صديقي، ستخرج أفلامًا ساخرة، الضحك من أجل الضحك، للتسرية عن الدواجن، فأفلام الحروب تستلزم وقتًا وجهدًا وغير مضمونة العواقب، وهناك دائمًا من يخرج عن النص.
فريق الإعداد: وماذا عن برامج التوك شو؟ - لا تقلقوا أنتم أيضًا، ستستمر البرامج ولكن لتفسحوا المجال لرجل الدين التقدمي؛ ليتحدث عن تجديد الخطاب الديني ويهدم ذلك الإرث الداعي إلى الجهاد والقتال، فالتسامح يجب أن يسود، فضلاً عن أننا تربطنا بالكيان معاهدات سلام والجد إبراهيم، فلِمَ العداء.
الضيفة النسوية بدلال: وأنا، هل نسيتني؟ - لا يا حلوة، وكيف أنساك.
يضحك فريق القناة: حلوة! والله لا يفصلها عن الرجل سوى شارب. - هدوء يا سادة، أنت يا حلوتي دورك أساسي، فالصراع الذي يجب أن يتصدر المشهد هو صراع المرأة من أجل نيل حريتها في مجتمع ذكوري همجي، فالمرأة ليست وعاءً لإفراغ الرجل شهوته.
أحدهم هامسًا لزميله: إذن لماذا كانت تلك الحلوة في سرير الخبير السياسي ليلة أمس؟! - أسمع همسًا!
- كنت أتساءل يا سيدي عن دور الخبير السياسي.
- لا لم يعد له دور، فالأمور قد استتبت، ورسخ في عقول الدواجن أن الكيان أصبح دولة وله حق في الوجود، وخريطة العالم قد تغيرت.
- وماذا عن الشيخ؟
- لقد احتجزه الأمن صباح اليوم، فلا مكان للمتطرفين بيننا بعد الآن.
- ولكن يا سيدي ما أدراك أنه لم يعد لدى العامة وعي؟
- صورتها، صورتها وهي تحمله وعلى وجهها ابتسامة شموخ ونظرة كبرياء، لو عرضت على الدواجن لحركتهم، فإن الديك رغم أنه من الدواجن لكنه يؤذن لصلاة الفجر وينقر يد ذابحه، لكن العامة لم تحرك ساكنًا وأصبحت تنتظر الذبح في خشوع، ولكن فلتحذروا ! لا تعيدوا عرض هذه الصورة مرة أخرى.
- لِمَ؟
- حتى لا تستيقظ الدواجن.
تضج القاعة بالضحك.
تمت
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي