أنفاسٌ حُرة للمبدعة اللبنانية زينة حمود بين الوعي واللاوعي *
__بقلم /ناصر رمضان عبد الحميد
في ديوان( أنفاس حرة) للأديبة اللبنانية :زينة حمود لغة واعية تنطوي على الرفض الشامل لكل ما يدور حولها في بلدها(لبنان) وعالمها (العربي) ،إنها صوت مغاير وإتجاه مغاير، أصبح فيه الإبداع مشروعا مبنياً على الرفض ينحو نحو أبعاد مستقبلية تطمح إلى الحرية والتغيير ،والسبب ببساطة هو: دخول اللاوعي واصطدامه بالوعي في حالة أشبهَ بالخيال ،حالة إنصهر فيها الإبداع وكوّن واقعاً موازياً بالشعر والجمال ،إنه طموح الذات الفردية ودعوتها للحرية إنطلاقاً للجماعية في واقع غير متحقق، واللاوعي يسعى إلى تحقيقه ،وما الشعر إلا حركة توتر ودعوة إلى التغيير ، وتطلع ورفض وثورة .إنه الإبداع المستمر المقاوم عبر الكلمة والنغم
،دعوة لحياة أفضل وعالم إنساني راقي .
من العنوان (أنفاس حرة) نلمح ما تصبو إليه المبدعة، والعنوان هو المدخل إلى فهم النص ،فهماً كلياً بوحدة موضوعية وبلاغة سياقية ،ومن هنا يسمى عتبةُ النّص أو كما يقول الناس بالعامية المصرية (الجواب يبان من عنوانه ) .
وأنفاس جمع نَفَس والنفس الروح ولها معان كثيرة يحددها السياق
النفس :الريح تدخل وتخرج من أنف الحي ذي الرئه وفمه حال التنفس
طويل النفس :ذو سعة وتمهل تنفس الرجل :أدخل النفس إلى رئته وأخرجه منهما
والتنفس :خروج النسيم من الجوف تنفس الصبح :ظهر وأنبلج قال تعالى (والصبح أذا تنفس) أي صار النهار واضحا سورة التكوير آية ١٨
والشاعرة هنا تقصد النفس التي هي الروح، الجسد، (الإنسان) والنفسُ شيئ خفيٌ يُعبرُ عن الحياة ودليل على الوجود والحركة والتفكير والإبداع ،وفي بعض معاني اللغة يُقصد بها الإنسان بكينونيته ،قال تعالى (ونفس وما سواها) سورة الشمس آية ٨،وفيها واقعٌ حقيقي يحياه الإنسان (الوعي) وواقع إفتراضي ( اللاوعي ) وفسرّها أفلاطون على أن هناك ثلاثة أنفس ،الشهوانيّة_ العاقلة_ المريدة.
وهذا خطأ لأن للنفس حالات تدور مع الإنسان في حالة تعلُقه بالشيئ وطلبه له حسب حاجاته وما تنزع إليه نفسه ،إنّها صفات وليست أسماء هي نفس واحدة فقط ،والمرادُ بها الإنسان ،وسار على نهجه إبن القيم مستنبطاً من القرآن أنواعا للنفس: المطمئنة اللومة الأمارة. وهو تفسيرٌ خاطئ أيضاً لأنها في الآية الأولى من سورة الفجر تتحدث عن المؤمن في يوم رحيله وأن هذه النفس ( الإنسان) إطمأنت إلى وعد الله وصدقته وآمنت بالآخرة فكان الجوابُ من الله على قدر إيمانها (يا أيتها النفس المطئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) سورة الفجر آية ٢٧ والثانية من سورة القلم على هيئة قسم معطوفة على (لا أقسم في يوم القيامة ولا أُقسم بالنفس اللوامة) سورة القيامة آية ٢،واللوامة هي التي تلوم صاحبها( وسط بين الخير والشر) لكنها طيبة تلوم صاحبها وتنهاه أذا فعل ما يضره أو إذا مسّه طائفٌ من الشيطان أي وسوست له نفسه بفعل الشر ،والشيطان في اللغة يُطلق على عدة معان منها ما يضر كالمرض ومنها الشهوة والميول النفسية إلى آخر ما هو معروف لدى أهل اللغة و ليس مجال للحديث عنه الآن ،والنفس الأمارة هي التي تأمر صاحبها بما لا يعود عليه بالنفع وربطت بالسوء، أي ما يضر الإنسان، وتؤخذ في سياقها ومن سورة يوسف،والمعنى مرتبطٌ بسياق الآية على لسان إمرآة العزيز حين عشقت نبي الله يوسُف وتمنته في غير ما أحل الله لها .
(وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ) سورة يوسف آية ٥٣
وحُرة مؤنث حُر للعاقل والمقصود الحرية ،والحرية هي :القدرة على إتخاذ القرار دون شرط أو قيد ،والحرية تُكتسبُ ولا تُوهب
ولله درّ شوقي: وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يُدق.
تسعى زينة حمود من خلال ديوانها (أنفاس حُرة) إلى الحرية وسط قلق يلفُها ووعي بالواقع الأليم واللاوعي الباعث على الإبداع والإلهام ،وهناك من يرى أن عملية الإبداع مرتبطة بما قبل الوعي ويحتل هذا المفهوم الصدارة لدى كوبيه فهو يؤكد أن العملية الإبداعية هي نتاج نشاط ما قبل الوعي ،يُمكنُ الوعي ويحرضه ويحثه،بينما يقوم الوعي بالتحسين والتقيّم و النقد وهذا خطأ واضح لأن الوعي الذي هو التصور ومعايشة الواقع والإصطدم به يؤدي إلى اللاوعي وليس العكس .
(يراجع في ذلك كتاب :الرؤية والعبارة _مدخل إلى فهم الشعر) عبد العزيز موافي /مكتبة الأسرة 2010
في (أنفاس حُرة) وعي وإدراك لطبيعة الحياة في مجتمع فُقد فيه كُلّ شيئ ،وتحول الإنسانُ إلى سلعة وصار يُنظرُ إليه على إنه (فيزا كارد) ويُحترمُ بقدر ما معه من (دولارات) .
ثلاثٌ وأربعين نصاً تدور في معظمها حول وضع لبنان المأزوم فإذا بإمرأة تكره الحدود والقيود تعشق الحرية تُمسكُ بيد الليل، تُشعلُ ضوء الفجر، حروفها مسكونة بالقلق كعصرها ،
تُطاردها هواجس القلق في كُلِّ خطو تخطوه وهي تردد مع الشاعر الكبير :محمد عبد الرحمن صان الدين :
راصد الإنسان في عصر الهوى يمشي كئيبا
بعد رصد الناس حيناً ينتقي منهم حبيبا
فيه أمن وأتناس اذ به يلقاه ذيبا
إن عيشا بين ذؤبان محال أن يطيبا.
الإنسان في
وسط هذا العالم تموت الفراشة، يسرق منها الحب، ويضيع الحبيب وتنتظر المطر، تحيا وحيدة غريبة أستمع إليها :
تائهةٌ وسط الزحام ،تدور حول نفسها ،تدور في واحة فارغة ،
وحيدة بإحساسها
،غريبة بطيفها ،تشعل القلوب ،تراقص العيون ،صندوقها مرصود ،الهواء عنها ممنوع ،
تلاحقها العيون.
إنها زينة حمود الأنا (الذات) لبنان (الآخر) الذي يسكُنُها وبين الأنا والآخر يفوح عطر عبيرها ليخرج لنا نصاً بل نصوصا غاية في المتعة والجمال وهي ما بين بين الأنا والآخر تستحضرُ الحب وما يفعله في النفوس من تغيير ،وأين هو ؟ قد لا تجده لكنّها تجده في الأخ السند والأم الحنون وعشقها لبيروت يفوق كل عشق.
تصرخ معها
تفرح معها
تجتاز الصعاب من أجلها
آه يا بيروت
كل شي فيك يصرخ
صوتك
صمتك
أنفاسك
تهز أركان الخليقة …
يميل الشعراء الجدد إلى الحداثة الشعرية وليس في ذلك ضرر شريطة أن يتكأ المبدع على اللغة وفهم طبيعة البلاغة العربية ،وأن الشعر يقوم على المعاني وليس الألفاظ (الألفاظ قوالب المعاني) ،ولأن الشعر المعاصر يقوم بالأساس على الحب وينأى بنفسه عن أغراض الشعر القديم ، من الهجاء والمدح والرثاء ،فإنه لا بُدّ له من أن يقوم على الإستعارة ،لأن الإستعارة تقوم على ثلاثة أدوار رئيسية التجربة، اللغة (المصدر) ،الفكرة (الهدف) وهناك من أضاف لهم الخيال .
،والعملية الإبداعية تقوم على هذا الثالوث والتجربة هي حياة الإنسان وكل ما يمر به في عالمه وواقعه قائمة على ثقافته ومعرفته وما تعلمه وفهمه والذي يُطالعُ شعر المتنبي يجد ذلك واضحاً جلياً وسرُّ بقائه إلى الآن تجربته الشعوريّة وما عانى وكابد واستطاع أن يأخذك معه في رحلته (تجربته) فرحا وحزنا.
اللغة وهي كالكهرباء بالنسبة للشعر ،نعم كالكهرباء تسري فتدب في الشعر الحياة ،فيضيئ للسارين ويصبح نغماً مضيئاً له طيفٌ وفيه جمال،وحقيقة اللغة تكمن في مجازها ونحوها وصرفها وبلاغتها وعرضها وطيها ونشرها،والشعر لغة والتجربة تكمنُ في أن يستطيع الشاعر أن يُعبرَ بلغته عن هذه التجربة ولا يبنى على الإنفعال كما يقرر برجسون ،يقول برجسون :أن جوهر الإبداع الإنفعال والإنفعال هو هزة عاطفية في النفس قد تكون هذه الهزة محركة لحالة شعورية يكتب من خلالها الشاعر ،لكنّها من وجهه نظري ليست الأساس وإنما الشعر حالة إختمار ، للعواطف اختبرت ونضجت واستوت ومر بها الشاعر وعاشها واستوطنته فعبر من خلالها ومما عايشه. لأن الإنفعال قد يكون سطحياً أو عميقاً وهو عملية لا إرادية تخلق أنماطاً من التصورات الخاطئة التي هي بعيدة كل البعد عن الشعر وعن تجربته الشعورية ،وإذا كان الإبداع عملية إبداعية كما يقول: برجسون أو فوق العقل وهي الإبداع كما يتصور فقد أخطأ. فالشعر حالة فيه من العقل (الإدراك ) فهو عبارة عن عصارة التجربة والإلتزام باللغة والصورة والموازنة بين الذات والأنا تحتاج إلى نوع أستطيع أن أسميه ب(الثبات الإنفعالي) أو كما يقولون (ذهبت السكرة وجاءت الفكرة) ،والشعر في الأصل فكر أشبه بقضية ما يسمونه بالإعجاب في الحب وهناك فرق شاسع بين الحب والإعجاب . يراجع في ذلك كتاب (الإبداع العام والخاص) ألسكندر رو شكارت، ت:د. غسان عبد الحي أبو فخر سلسلة عالم المعرفة الكويت ١٩٨٩
في ديوان( أنفاس حرة )للشاعرة المبدعة :زينة حمود فكرة سيطرت عليها هي فكرة الخلاص والحرية للوطن والمواطن المأزوم الذي يحيا حياته من نحس إلى نحس ومن إقتتال إلى تفجير إلى بطالة إلى غياب للحب والوفاء والصدق، بفعل الرأسمالية المتوحشة.
في (أنفاس حرة) تعتمد الشاعرة على اللغة،واللغة وحدها كافية لإخراج ما بداخلها من شعور.
يدور ديوان (أنفاس حرة) حول عدة محاور: الوطن ،الحب،الأسرة،الثورة ،الحرية. وتدور الشاعرة مع هذه المحاور فتتنقل بين جنبات نصوصها فتارة تحكي عن الحب والحب هو الوطن وتارة تحكي عن الوطن والوطن هو الحب ،وتارة تحكي عن الأسرة عن أخيها عن الأم وكلاهما حب،تدعو إلى الثورة و الحرية من أجل تحقيق هذا الغرض الساري سريان الماء في العود الاخضر ألا وهو (الحب) .
زينة حمود لغويّة وأكاديميّة تمارس الثورة وتمارس الشعر والنقد، لغتها سليمة بنحوها وصرفها وبلاغتها كما تعمل أيضاً بالصحافة مما زاد من خبرتها وثقافتها ومعرفتها بأحوال البشر وما تضمرها النفوسُ، وهي أيضا عضو ملتقى الشعراء العرب ومحررة بمجلة أزهار الحرف، تربطني بها معرفة قديمة وأشهدُ أنها محبة للثقافة والقراءة وفي بيتها مكتبة قيّمة،أشكرها على إهدائها الذي ذكرتني فيه وخصتني دون غيري بالشكر في بداية الديوان.
لها كل الود والتقدير ولقلبها السعادة والفرح.
أقول لها :ستظل أنفاسك حرة مغردة تصدح بالجمال والأمل وستعود بيروت (ست الدنيا)كما أسماها نزار قباني.
وسنردد معك ومعها ومع إلياس الرحباني :
اشتقنالك يا بيروت واشتقنا للسهر
اشتقنالك يابيروت واشتقنا للقمر
يرجع على ليلاتك
ينزل على سهراتك
يا بيروت يا بيروت
اشتقنالك يا بيروت واشتقنا للسهر
اشتقنالك يابيروت واشتقنا للقمر
يرجع على ليلاتك
ينزل على سهراتك
يا بيروت يا بيروت
إن كان إنت نسيتينا
نحنا مش ممكن ننسى
وإن بدّك تقسينا
نحنا مش ممكن نقسى
وإن كان إنت نسيتينا
نحنا مش ممكن ننسى
وإن بدّك تقسينا
نحنا مش ممكن نقسى
وعزّ كل ما بينحني
حامل كرامة وطني
صرتي إنت الحلم يا بيروووت
تحياتي إلى الشاعرة اللبنانية المبدعة زينة حمود.
*ناصر رمضان عبد الحميد عضو إتحاد كتاب مصر
رئيس ملتقى الشعراء العرب …
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي