“” رواية ” لن يأتي الصباح هذه الليلة”
تنوع اسلوب الروي وتقنية كتابة البيضاني “”
مؤيد عليوي
كانت جلسة نادي الكتاب بغداد الابداع الادبي – اليونسكو، من يوم الخميس ٢٧ / ٦ / ٢٠٢٤ في اصبوحة إنسانية تفاعلت ْ فيها دموع بعض الحضور أصدقاء الروائي عبد الستار البيضاني مع ابتساماتهم وهم يحتفون بإصدار روايته القديمة الجديدة طبعة دار الشؤون الثقافية العامة سنة ٢٠٢٢، كما تفاعلتْ ابتسامات الفرح والمرح مع الحضور والمداخلات، وبين هذه المشاعر الانسانية ومداخلات الحضور فكرتُ حينها أن أكتب عن رواية ” لنْ يأتي الصباح هذه الليلة” إحدى روايات عبد الستار البيضاني ، لكنها بطعم خاص هي رواية العراقيين المغلوب على أمرهم الى الآن في الكثير من القضايا العامة التي لم يختاروها، فلم يختر اغلب العراقيين الحرب الاهلية الطائفية سنة ٢٠٠٧ ، ولم يختار اغلبهم من قبلُ شكل الحكم في العراق منذ العهد الملكي وهلمَّ جرى، كما لم يتخاورا حرب الخليج الأولى والثانية والثالثة وما تلاها من احتلال للعراق ،
المهم أن الرواية تتناول حياة العراقيين الذي سِيقوا الى الحرب دون ارادتهم لمواجهة قوات التحالف الدولي في صحراء طويلة عريضة ، فبطل الرواية ليس له اسم صريح فيها وهذا يشير الى شيوع ما مرّ به وان ما حدث معه قد حدث مع غيره، بمعنى أنه يمثل اغلبية انسانية من العراقيين، التي عاشت تجربة مرّة وفاز مَن بقي على قيد الوجود بين الانسحاب القهقري تحت ضربات الامريكان الجوية أو صار مِن أسرى حرب بيد قوات التحالف الدولي العربي، تلك الظروف العصيبة على الانسان حين تخيره الظروف بين الموت أو الموت واحتمال النجاة معدوم كيف تكون المشاعر الانسانية كيف يكون التفكير البشري .. لتأتي الرواية بسردية واقعية بل حقيقة تنبض بها سطورها وكلماتها وطريقة سردها، فتبدأ ببطلها بعد عودته من الكويت مصابا ويمشي بعكاز جاء من وحدته العسكرية به، حيث يبدأ السرد بأسلوب الراوي العليم عن احوال بغداد وغياب الكهرباء والخدمات وقلق الاهل والزوجة على بطل الرواية وهو ايضا قلق على أهله وابنه الوحيد “حيدر” وزوجته ، ثم ينتقل السرد عبر الحوار بين الزوج والزوجة ، ليصير البطل راويا ثانويا غير اسلوب الراوي العليم الذي بدأت به الرواية،و لتبدأ حكايته وحكاية اغلب العراقيين في صحراء الحرب فالمواقف الانسانية كثيرة بين مواجهة الجوع والعطش والنكتة غير المتوقعة والضحكة حد السخرية فيقول أحد الجنود ” عبود ” في وسط القصف الطائرات الامريكية على الجيش العراقي في الصحراء، لعل الطائرات تُسقط لنا مجندات أمريكية جميلة..، فيما تنماز اللغة السردية بتوافر صورها البلاغية، لغة تكاد لا تخلو منها صفحة من صفحات الرواية ٢٨٨ صفحة ، منها 🙁 اشتعلت اطراف الافق بنار وامضة مصحوبة بدمدمة منكسرة تدق في عظام الجمجمة . لا ندري هم الذين يقتربون منّا أم نحن نقترب منهم ؟! .) ثم ينتقل السرد بطريقة غير محسوسة الى صوت المتكلم ويعود الى الراوي الثانوي البطل وينفلت الى اسلوب الراوي العليم مرات ، ففي هذا المقطع من المتن :(بدأوا بلف سلك الهاتف على الجسدين المستسلمين لموتهما المرتقب. كنتُ أرى صعوبة حركة عضو لجنة الاعدام حول الجنديين الى عمود الكهرباء لشد السلك على جسديهما وكأنه يؤدي رقصة وحشية تشبه رقصة اكلي لحوم البشر.. بدت لي الصورة شبحية ..السلك يغوص في ملابسهما وربما في لحمهما .. يحزهما .. ويضغط انفاسهما .. السلك يضغط على ضلوعي .. افرشُ كفي على صدري واتلمسه ،شعرتُ بتكسر اضلاعي….) في هذا المقطع السردي نلحظ كيف تحول السرد من اسلوب الى اسلوب في الروي كيف تتداخل اللحظات والاحساس بين البطل الذي يشاهد الجنديين ولجنة اعدامهما، وبين احساس الجنديينِ، فيما تنطلق الرواية بتكوّر أحداثها ومواقفها حول معاناة بطلها الذي كان بؤرة الضوء فيها من خلال معاناته وبقية الجنود معه في كيفية بقائهم على قيد الوجود احياء، فيسميها الروائي عبد الستار البيضاني : غزيرة البقاء عند الحيوان التي تنجيهم ، وتتواصل احداث الرواية التي كانت صفحات مكتوبة صفحة متصلة بصفحة ولم تكن على شكل فصول بما يشير الى رغبة الروائي البيضاني في إفراغ ثقل ما شاهده و عاشه هو وأبناء جيله من أيام جعلتهم في مواجهة الموت من الجوع والعطش تارة في عمق الصحراء، أو بقصف الطائرات الامريكية أو حقول الألغام أو مناطق خطرة كما في لحظة عبور الجسر نهاية الرواية ، أو الخوف من لجنة الإعدامات عندما فكروا بالهروب من الحرب قبل قرار الانسحاب الرسمي من الحكومة ، في سرد واقعي لا يوجد فيه خيال أو مخيال أدبي كما صرح بهذا المؤلف البيضاني -في اصبوحة الاحتفاء بصدور الرواية في أعلاه – التي حملت بين طياتها مشاعر الخوف والشجاعة، الفرح والحزن ،والالم والسخرية وكل مشاعر متضاربة بكل ما يحسه الانسان ويدركه من مشاعر في هذا الوجود بما جسّد تمثيلا روائيا لشخصيات الجنود الحقيقة في احلامهم المستقبلية ومخاوفهم شجاعتهم سخريتهم من الاشياء والوجود و سخريتهم من القوانين العسكرية في لحظات تذهب بهم الى أهلهم وهم لا يعلمون شيئا عنهم ولا أهلهم يعلمون عنهم أمرا ، ينكشف هذا في التناوب قصصي كما عند تودوروف، إذ يخرج السرد من قصة البطل الى قصة جندي معه في موضع القتال ، من الاهوار مثلا يقصّ للبطل قصة جدّه في الاهوار مقابل سجارة ،وكيف تعلم الغناء من المذياع أيام الملكية ،بل كيف حصل على المذياع في بغداد وهو لا يملك شيئا ، وهكذا تنداح القصص من الجنود بصوت المتكلم بين سرد وسرد بين سرد البطل عن نفسه بصوت المتكلم أو أسلوب الراوي، وبين سرد الجنود لقصص تخصهم او سرد مشاعرهم واحلامهم، ثم تنتهي الرواية بعبور بطلها المصاب في ساقه الجسرَ الخطر ويلتقي بشباب من الحيانية البصرة يحملونه لضماد جراحه وانقاذه وغيره من الجنود العراقيين بأسلوب صوت المتكلم ، لتعود بك نهاية الرواية الى مبتدأها حين دخل شقته السكنية في بغداد واستقبلته زوجته وسألته ما الذي غيرك لقد انتهت الحرب ؟! وهذه المنطقة من جغرافيا المتن الروائي أيضا يتحول السرد فيها برمته من البيت السكن الى أرض الحرب أنها التحويلة بين مكان سكنه وبين مكان وجوده في أرض حرب الكويت :
كما في الاقتباس بأسلوب الراوي العليم : (اكمل تمدده في الفراش سحب البطانية الى المنتصف صدره واستمر يتحدث بتواصل غريب لا تناسب مع حالة جريح منقوع بالدم وصل توا ! .. فقد صار يشبه الهذيان ، اما هي فقد تحولت إلى آذان صاغية ، ومطحنة تطحن آلامها وفضولها بصمت.. لكنها مع ذلك لم تطلق السؤال المتحشرج في صدرها: ما الذي غيره) لنعلم أن الرواية برمتها كانت جوابا لسؤال الزوجة ( ما الذي غيره) بأسلوب الراوي العليم، وبعد هذا لم يبقَ إلا إيراد توقيع الشاعر يوسف الصائغ في ظهر الرواية الذي كان مُعززا بصورة فوتوغرافية لكلماته في ظهر الرواية :
( وبعد أيها العزيز …
فهذه (وثيقة) تعطي لعذبات الجسد كل سجايا الروح ..بحيث تحار . ايهما الاكثر عذابا.. والاكثر خصوصية ، في تحديد ما هو إنساني…)وتستمر حتى تنتهي الكلمة بتوقيع يوسف الصائغ وتاريخها قبل الطباعة بكثير ١٩ / ١٠ / ١٩٩٩. مما يؤكد أنها رواية الصدق وأن أحداثها حقيقية وليس لها من الادب والفن الروائي سوى أسلوبية الكتابة وتقنية الروائي عبد الستار البيضاني التي اخرجتها للقارئ والمتلقي، رواية أدبية واقعية حقا فيها فن التكنيك الروائي .
تغريد بو مرعي.. وفلسفات على حافة الروح/ بقلم الكاتب محمود قنديل
تغريد بو مرعي.. وفلسفات على حافة الروحبقلم/ محـمـود قـنديـلكاتب مصري في كتابها النثري "فلسفات على حافة الروح" تذهب بنا الأديبة...
اقرأ المزيد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي