“شتاء غزة: بين قسوة الطقس وعطاء الحياة”
في عمق الشتاء، حين تتراص الغيوم كأفكار مبعثرة على مائدة لا تتسع لصراخ العتمة، تتنهد غزة في سرها. هو ذلك الشتاء الذي يحمل معه موجات قاسية من الرياح الباردة، جنوداً متسلحين بالقمامة والأوحال، يمضون بخطى ثقيلة على وجع الأراضي التي ولدت أوجاعها من سبب لصلابة الصخور. الثلج، كسمات من الحزن، لا يعكس بياضه، بل يغطي بريق الحياة تحت غيمات الكآبة.
لكن، في صميم هذه القسوة، تسكن عطاءات الحياة. ففي بيوتٍ مبنية من إحساس الدفاع، تحتضن الأرواح الصغيرة التي تلتمس الدفء بين أحضان ذويها، حيث يلتف الجميع حول مرآة من النار القادمة من قلوبهم. هناك، تنفتح النوافذ على آمال واضحة كنجومٍ تضيء في سماء محصورة، تُخاطب الموتى قبل الأحياء. إنهم يصرخون، لكن صراخهم يكتسي بوشاح الحياة، كأسطورة تُؤلف نشيد الصمود تحت الأمطار الغزيرة.
في زوايا الأزقة، تتوزع أعمدة القمامة التي كانت تجسد فصولاً من العزلة، تُعطر الهواء برائحة الشوق. يخرج الأطفال برؤوس مشوشة، كأنهم يستلهمون الضوء من أمواج البحر القريبة، ويرسمون أشكالهم الضاحكة بأقلام رخيصة، يجسدونها كوردات من زهور تصارع الشتاء. يرسلون إلى الحياة رسائل حب، يثقبون قلوب الكآبة بأقلام قلوبهم الصغيرة.
فكل زخّة مطر تسجل نقطة جديدة في قصائد الأمل، كل نفحة هواء بارد تأخذ شكل ابتسامة، وكل رمشة عين تُبدي حكاية تُنتج الدفء من عذابات البرد. في هذا المشهد يُختزل الصراع، وتنمو شجيرات الأمل بجوار صخور القلق، مترسخة في بقعة من الأرض التي ترفض أن تُقهر.
يتجدد الإحساس بأن الحياة قادرة على النحت رغم الجليد، على النمو وسط الصخور، فلا ينتهي الأمر هنا، بل يفتح الأمل آفاقاً جديدة. يتجلى الشتاء كفضاء للتجدد، كأن العواصف تُعلمنا أن نكون أعمق وأغنى في تجاربنا، وأن نتحمل الألم كرفيق، إذ إن العطايا لا تُقاس دائمًا بالسخاء، بل بالقوة التي تُبقي النبض حياً في قلوب من يُعانون.
ومع انجلاء عواصف الشتاء، تظهر أمامنا رموز الجمال المنتهى، مشروطة بحرب أبدية بين الثلج والنار، بين القسوة ونعمة الحياة. تُخبرنا غزة أن الشتاء ليس نهاية، بل قد يكون بداية رحيل جديد يتمخض عن عطاءات تتجاوز المدلهمات. هل نراكِ يا غزة تستقبلين الربيع بحفاوة، أم تستمرين في إعلاء أصواتك الصادحة بأن الحياة تُزهِر حتى في قسوة الشتاء؟ تظل تلك الأسئلة معلقة، قابلة للتأويل، في أفق يكتنفه غموض الشغف وطبيعة الوجود.
محمد النبالي
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي