القاضي الجرجاني والعمل الأدبي: رؤية عميقة لمفهوم الإبداع
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
في ساحة الإبداع الأدبي، تتلاقى طاقات متباينة وتتآزر قوى متعدّدة، تجمع بين الطبع والسليقة، والرواية والدربة، والذكاء وقوة الملاحظة. ولعلّ من أبرز من أدرك هذه التداخلات الدقيقة بين عناصر العمل الإبداعي وأبعاد تكوينه، القاضي علي بن محمد الشريف الجرجاني، ذلك العالم الموسوعي الذي لم يكن مجرد فقيه أو نحوي أو منطقي، بل كان أيضاً ناقداً بصيراً بطبيعة الإبداع الأدبي، ناظراً إليه لا باعتباره نتاج لحظة انفعالية عابرة، بل حصيلة لتفاعل معقد بين الفطرة والمِران، وبين التلقي والفهم، وبين المحاولة والإخفاق.
لقد أدرك القاضي الجرجاني أن العمل الإبداعي ليس ثمرة طبعٍ خالص، ولا نتاج روايةٍ مجردة، ولا حصيلة ذكاءٍ فذ وحده، وإنما هو التقاء هذه الملكات جميعاً في لحظة يتوافر فيها الشرط الداخلي والخارجي، الذاتي والموضوعي، فيتحقق بها الإبداع. وهو يرى – في بُعد نظره ودقّة تأمّله – أن الدُّربة ليست مجرد عامل مساعد، بل هي مادة الإبداع ذاتها، بل وقوته المحركة، وسبب من أسباب اكتماله.
وإذا كان هذا هو تصور الجرجاني لطبيعة العمل الأدبي، فإنه يُشير ضِمنيّاُ إلى أن الإبداع لا يسير في خط مستقيم، ولا يخضع لنظام زمنيّ أو نفسيّ ثابت. فالمبدع – أديبًا كان أو فناناً – لا يستطيع استدعاء لحظة الإبداع متى شاء، ولا يملك مفاتيحها السحرية، إذ هي حالة تتجاوز القدرة الإرادية الواعية، وتتصل بما هو أشبه بالإلهام أو التوهّج الداخلي. من هنا، فإن الطريق إلى الإبداع محفوف بكثير من العوائق النفسية والمعنوية، ولعل أبرزها ما أشار إليه النص من حالة الإحباط واليأس، التي قد تعترض طريق المبدع، وتُثقله بأسئلة لا جواب لها.
بل إن من المدهش أن اليأس ذاته قد يكون مُمهّدًا لمرحلة الإشراق والانكشاف؛ فكما أن السُّكون يسبق العاصفة، فإن لحظة التراجع قد تكون هي اللحظة السابقة للانطلاق. فكم من كاتبٍ أحسّ بالعجز والجدب، فإذا به يُفاجأ بانبثاق فكرة باهرة أو صورة آسرة تُعيد إليه الأمل والثقة، وتُخرجه من نفق الحيرة إلى أفق الوضوح.
غير أن المفارقة الكبرى تكمن في أن هذا الشعور بالإحباط لا ينتهي بانتهاء العمل، بل ربما يبدأ من جديد بعد إنجازه؛ إذ يواجه المبدع سؤالاً وجوديّاً عميقاً: “وماذا بعد؟”. وهو سؤال لا يطرحه الكاتب على نفسه فحسب، بل يُمثّل موقفاً متكرراً في حياة كل من يخوض تجربة الإبداع: ماذا بقي لي لأقوله؟ هل كان ما قدمته يستحق العناء؟ هل يمكنني أن أكرر التجربة؟ وهل سأظل قادراً على العطاء؟
في هذا الإطار، يبدو الإبداع وكأنه سيرورة لا تنتهي، وتجربة لا تعرف الاكتمال، بل تظل مفتوحة على القلق والانتظار، وعلى الأمل واليأس معاً. إنها رحلة دائمة بين الشك واليقين، بين اللحظة التي يُولد فيها النص، وتلك التي يُعاد فيها التفكير في جدواه.
وختاماً، فإن رؤية القاضي الجرجاني للإبداع تكشف عن وعي مبكر بطبيعة العملية الأدبية، وتُظهر إدراكًا عميقاً بتعقيداتها النفسية والوجدانية، وتُؤكّد أن الإبداع ليس مجرد صنعة ولا صناعة، بل هو وحيٌ داخلي لا يستقر في نفس المبدع إلا بشقّ الأنفس. وإنّ تأمل هذه الرؤية يُغني النقاش النقدي الحديث، ويمنحنا فرصة للتفكير المتجدد في معنى الكتابة وجدوى الفن في حياة الإنسان.