الشيخ محمد السنرواي: عالمٌ بين همِّ الدعوة وعقبات النشر
عشتُ مع الشيخ محمد السنرواي – رحمه الله – سنوات قليلة، لكنها كانت كافية لألمس فيه شخصية العالم الأزهري المتواضع، الصادق في نيّته، الغيور على دينه وعلمه. لم يكن الشيخ يميل إلى التأليف كثيرًا، وإن كان يطمح إلى ذلك في سريرته، غير أنّ العمل الإداري الذي كان يضطلع به داخل مؤسسات الأزهر الشريف شغله طويلاً عن مشروعه العلمي، فظلَّ حلم الكتاب المؤلَّف مؤجَّلاً بين المهام والواجبات.
وكنتُ كلما كتب مقالًا لجريدة أو مجلة، يرسلها إليّ لأراجعها وأُعينه على تهذيب الأسلوب وتدقيق المضمون، فكنت أجد في كلّ مقالة روح العالم المتأمل، وصدق المفكر المصلح، وأقترح عليه مرارًا أن يجمع تلك المقالات والفتاوى في كتاب أو سلسلة كتب تحفظ جهده وتخلِّد فكره.
ذات يوم، قال لي إنه بصدد إنشاء جمعية لعلوم القرآن والحديث الشريف، لتكون منارة علمية تنشر فكر الإسلام الوسطي، وتصدر عنها سلسلة مطبوعات في ميادين العقيدة والتفسير والفكر الإسلامي، ووعدني بأن أكون معه في هذا المشروع المبارك. غير أنني اعتذرت له – وكان يعلم السبب – إذ كنتُ قد عقدت العزم على مغادرة الفيوم في عام 2002، متجهًا إلى القاهرة لاستقرار عملي وحياتي فيها.
بعد مغادرتي الفيوم، كنت أحرص على زيارته كلما ذهبت لزيارة والدتي، وكان لقاؤنا يتجدّد بالمودّة والذكرى. وفي أحد لقاءاتنا، أخبرني – رحمه الله – أنه أنشأ الجمعية بالفعل، وجعلني أحد المؤسسين فيها، ثم أهداني ما صدر عن الجمعية من سلسلة مطبوعات تحت عنوان “من كنوز التراث”.
حتى آخر لقاء لي به، كانت السلسلة قد صدرت منها ثلاث رسائل، وكان آخرها الرسالة الثالثة التي حملت عنوان:
> “هذا هو الدين”
تقديم وإعداد: محمد السنرواي، المستشار بالأزهر الشريف، ورئيس جمعية علوم القرآن والحديث الشريف.
هذه الرسالة الصغيرة في حجمها – إذ تقع في 48 صفحة من القطع الصغير – لكنها كبيرة في محتواها وأفكارها، تناول فيها الشيخ مفهوم الدين باعتباره فطرةً إنسانية، وركّز على قضايا التوحيد لغة الحياة، وطاقات الإنسان في الوجود، والدين المفترى عليه، وشخصية المسلم، وثوابت الإسلام، ومنطق الحرية في المفهوم الإسلامي، والتوازن بين الروح والمادة، وغيرها من الموضوعات التي تضع القارئ أمام صورةٍ ناصعة للإسلام في صفائه الأول.
جاء أسلوب الشيخ في هذه الرسالة سلسًا ومبسّطًا، لا يتعالى على القارئ، بل يقترب منه ويأخذ بيده إلى الفهم الواعي، مستشهدًا بالقرآن الكريم والسنّة النبوية، وبأقوال العلماء والمفكرين والفلاسفة الذين جمعوا بين الإيمان والعقل، أمثال: أنور الجندي، محمد قطب، وفيكتور فرانكل.
وفي نهاية الرسالة، أرفق الشيخ محاضرة ألقاها في هولندا، بمدينة أترخت، بمسجد الجمعية العالمية للدعوة، تحت عنوان:
> “التعايش الجمعي في رحاب إنسانية الإنسان”
وهي محاضرة تكشف عن اتساع أفق الشيخ السنرواي، وانفتاحه على العالم، ووعيه بضرورة تقديم الإسلام في صورته الحضارية، التي تجمع ولا تفرّق، وتبني ولا تهدم.
لقد كان الشيخ – من خلال هذه الرسائل – يريد أن يقول إن الأديان السماوية واحدة في جوهرها، وأنّ الخلافات مصطنعة صنعها الجهل والتعصب والتوظيف السياسي للدين. كان يدعو إلى التعايش بين أبناء الإنسان الواحد في ظل قيم الرحمة والعدل والحرية المسؤولة، مؤمنًا بأن الدين الحق لا يعرف الإقصاء ولا الكراهية.
لكن هذا الجهد المبارك – على قيمته العلمية والإنسانية – لم ينل ما يستحقه من عناية ودعاية وطباعة فاخرة، إذ طُبع الكتاب طباعة متواضعة، بلا رقم إيداع، ما يجعله عرضة للسرقة أو الضياع مع مرور الوقت. وهذه مشكلة عامة لاحظتها في كثير من كتب وشعر أبناء الفيوم، حيث يغيب الاهتمام بالنشر الرسمي، ولا تُستكمل الإجراءات القانونية التي تحفظ الحقوق الأدبية والفكرية للمؤلفين.
فمعظم الكتّاب هناك يكتفون بالطباعة في مكتبات جامعة الفيوم المنتشرة في حي كيمان فارس قرب الجامعة، وهي مكتبات معروفة بطباعة الملازم الدراسية، لكنها لا توفّر الضمانات ولا الانتشار الذي يستحقه الكتاب الجاد. وهكذا تضيع جهود المبدعين والعلماء في ظلال الإهمال، فلا يصل نتاجهم إلى القراء، ولا يُدرج في سجلات المكتبات الوطنية.
إن تجربة الشيخ محمد السنرواي تمثل صورة مصغّرة لمأساة فكرية وثقافية أوسع، يعيشها كثير من العلماء والأدباء في المحافظات، الذين يحملون فكرًا أصيلًا لكنهم يفتقدون الدعم المؤسسي والإعلامي، فيظل نتاجهم حبيس الأوراق القليلة أو النشرات المحدودة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مبادرات توثيقية ونشرية تُعنى بإحياء تراث هؤلاء العلماء، وإعادة طباعة أعمالهم بطباعة تليق بمكانتهم، ووضع أرقام إيداع تحفظ حقوقهم وتمنح مؤلفاتهم حياةً جديدة في المكتبات والمراكز البحثية.
لقد كان الشيخ السنرواي نموذجًا للعالم الأزهري الذي جمع بين صفاء النية وعمق الفكر، لكنه عاش في زمنٍ لم يمنحه فرصته الكاملة ليقدّم كل ما لديه. ورغم رحيله، يبقى أثره شاهدًا في تلك الرسائل التي أراد بها أن يُعيد إلى الأذهان جوهر الدين الإنساني السمح، دين الفطرة والحرية والتوازن.
رحم الله الشيخ محمد السنرواي، فقد كان من أولئك الذين يعملون في صمت، ويزرعون في صمت، ويتركون للزمن أن يشهد بثمر عطائهم.
___
عضو اتحاد كتاب مصر
رئيس ملتقى الشعراء العرب