الحداثة كيقظة للذات وانقلاب في أنطولوجيا الفكر والجمال: من الإصلاح الديني إلى تفكيك المرجعية:
بقلم :عماد خالد رحمة_ برلين.
لم تكن الحداثة حدثاً طارئاً أو مجرّد حركة أدبية وفكرية في فضاء التاريخ الأوروبي، بل كانت تحوّلاً بنيوياً في نمط الوعي الإنساني، انتقل فيه الفكر من دائرة الاتباع إلى أفق الإبداع، ومن هيمنة المرجع إلى سيادة الذات. كانت إرهاصاتها الأولى، كما أشار المؤرخون، متشابكة مع حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر التي قادها مارتن لوثر، إذ كان الانشقاق الديني آنذاك أكثر من تمرّد لاهوتي؛ كان ثورة على الوسيط، على السلطة التي تتحدث باسم المطلق، وعلى اللغة التي كانت حكراً على المقدّس. منذ تلك اللحظة، بدأت الذات الأوروبية تكتشف صوتها الداخلي وتعيد بناء علاقتها بالعقل، بالزمن، وبالعالم.
—الحداثة كتفكيكٍ للمرجعية وبناءٍ للذات:
يقول ميشيل فوكو: “ما تُسمّيه الحداثة ليس سوى لحظة وعي الإنسان بذاته ككائنٍ تاريخيّ قادر على إنتاج المعنى”.
هذا التحول الذي بدأ مع لوثر وبلغ ذروته في عصر التنوير، أزاح مركز الحقيقة من السماء إلى الأرض، ومن الغيب إلى العقل. وهكذا، أصبحت الحداثة نقطة انعطافٍ في مسار الكينونة الإنسانية، إذ لم تعد المعرفة تسعى إلى تفسير النصوص، بل إلى تفسير الوجود ذاته.
في المقابل، شهد القرن السابع عشر صراعاً أدبياً محتدماً بين من رأوا في الماضي الكلاسيكي نموذجًا للكمال الفني مثل لافونتين وراسين وبوالو، وبين من رأوا في الحداثة حركة تحرير جمالية من سطوة المحاكاة والتقليد، مثل فونتنيل وبيرو وكورناي.
كان الصراع في جوهره صراعاً بين العقل المقلّد والعقل المبدع، بين ميتافيزيقا الكمال وبين جمالية النقص، بين ما أسماه هايدغر “الوجود المكرور” وما بشّر به الأدب الحديث بوصفه انبثاقاً للكينونة في لحظتها الراهنة.
—اللغة كمرآةٍ للتحوّل:
منذ أن تحرّرت الفكرة من قيد الميتافيزيقا، تحرّرت اللغة أيضاً من كونها أداة وصفٍ إلى كونها أداة كشفٍ وإبداع.
لم يعد الشعر مرآةً تقلّد الجمال بل أصبح، كما قال بودلير، “صناعةً للدهشة”.
ومع ديدرو وروسو وفولتير، لم تعد الكتابة مجرّد بلاغةٍ لسانية، بل موقفاً فكرياً وأخلاقياً من العالم.
أصبح النص فضاءً للتساؤل لا للامتثال، ومختبراً للتفكير لا للنقل.
وإذا كان روسو قد نادى بالعودة إلى الطبيعة بوصفها ملاذًا للصفاء الإنساني، فإن فولتير رأى في التقدّم العلمي والعقلاني جوهر الحداثة، فكانت رسائلهما المتبادلة – وإن امتلأت بالاحتقار والسخرية – صورةً رمزية لانقسام الوعي الحديث بين الروحاني والعقلاني، بين الحسّ الإنساني والعقل الأداتي، وهو انقسام ما زال يُغذي الفكر الفلسفي حتى اليوم.
—من الأدب إلى الفلسفة: جدلية القديم والجديد:
يرى ت. س. إليوت أن “الحداثة ليست قطيعة مع الماضي، بل وعيٌ بالماضي بطريقة جديدة”.
بهذا المعنى، لا يمكن فهم الصراع بين الكلاسيكيين والمحدثين إلا كجزء من الحوار الأبدي بين التقاليد والإبداع.
فـكورناي وفونتنيل، في دفاعهما عن التجديد، لم يسعيا إلى هدم التراث بل إلى تحويله من نصٍّ مغلق إلى نصٍّ مفتوح.
وفي هذا التحول ولدت فكرة “الحداثة الجمالية” التي جعلت من الفن مرآةً للزمن لا لأساطير السلف.
لقد أرست هذه الجدليات أرضية الثورة الفكرية التي تجلّت لاحقًا في فكر كانط وهيغل، حيث أصبح الإنسان هو المبدأ والمآل، والعقل هو السلطة العليا التي تشرّع للمعرفة والأخلاق والجمال معاً.
—الحداثة كوعيٍ بالمستقبل:
إنّ الحداثة ليست لحظة تاريخية منتهية، بل حالة مستمرة من النقد الذاتي.
كما قال يورغن هابرماس: “الحداثة مشروع لم يكتمل بعد”، لأنّ كل لحظة تجديد تخلق ضدها لحظة مقاومة.
من هنا، فالصراع الذي بدأ في القرن السابع عشر بين القديم والجديد لم يكن مجرد معركة أدبية، بل تجلٍّ لصراعٍ أعمق داخل الوعي الإنساني بين الخوف من التغيير والرغبة في الانبثاق.
–خاتمة:
لقد كانت إرهاصات الحداثة مخاضًا مؤلمًا لولادة الذات من رحم الجماعة، ولانفصال الكلمة عن الوصاية، ولانبعاث الإنسان ككائنٍ حرّ يصوغ مصيره بالمعرفة لا بالعقيدة.
وما زال سؤال الحداثة مطروحًا اليوم كما كان بالأمس:
هل هي خلاصٌ من التقاليد أم مأزق وعيٍ متورّط في ذاته؟
لكنّ المؤكد أنّها كانت – وستبقى – تلك الشرارة التي أيقظت العقل الإنساني من سباته الطويل، وجعلته يرى أن الطريق إلى الحقيقة يبدأ دائمًا من الشكّ، وينتهي دائمًا إلى الإنسان.