الجرجاني ونقد الاعتدال: قراءة في كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
يُعدّ القرن الرابع الهجري العصر الذهبي للنقد الأدبي العربي، إذ نضجت فيه الرؤية الجمالية، وتبلورت فيه المفاهيم النقدية التي أرست أسس المقاييس الفنية للشعر والبيان. فقد كان النقد قبل هذا القرن في أغلبه ذوقيًا انطباعيًا، يعتمد على الذائقة الفردية، ثم ارتقى مع ظهور النقاد الكبار إلى مستوى التأصيل النظري والمنهج التحليلي. وفي قلب هذا التحوّل برز القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت 392هـ)، أحد كبار نقاد عصره، بكتابه الفريد «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، الذي لم يكن مجرد دفاع عن شاعر، بل كان تأسيسًا لمنهج نقدي معتدل يجمع بين الإنصاف والصرامة، وبين الذوق والمعيار العقلي.
_ الجرجاني والوسطية النقدية في عصر الجدل الأدبي:
شهد القرن الرابع الهجري سجالات حادة بين أنصار القديم والمحدثين، وبين من يقدّسون تراث الجاهلية ومن ينحازون إلى التجديد. وفي هذا المناخ المشحون، جاء الجرجاني ناقدًا متزنًا، لا يمالئ طرفًا على آخر، بل يسعى إلى إقامة العدل الجمالي بين المختلفين. وقد اختار المتنبي نموذجًا لهذا الجدل، لما دار حوله من خصومات تجاوزت حدود النقد إلى التشهير.
يروي الثعالبي في يتيمة الدهر أن الجرجاني ألّف كتابه ردًّا على رسالة الصاحب بن عباد التي هاجم فيها المتنبي، فكتب الوساطة «فأحسن وأبدع وأصاب شاكلة الصواب». وبهذا الكتاب وضع الجرجاني نفسه في قلب المعركة النقدية، لا ليخاصم، بل ليقيم ميزان الإنصاف في زمن الانحياز.
—منهج الجرجاني النقدي:
لم يكن كتاب الوساطة دفاعًا عاطفيًا عن المتنبي، بل دراسة نقدية شاملة لأصول الشعر ومعاييره، استعرض فيها القاضي عناصر الفن الشعري ومقوماته. فناقش مفهوم الشعر والخطابة، وبنية القصيدة، والعلاقة بين المعنى واللفظ، كما تناول ظواهر السرقات الشعرية والاستعارة والابتكار. وقد أبرز الجرجاني في وساطته فكرة أن النقد يجب أن يقوم على العدل الفني لا على الهوى الشخصي، فالناقد الجيد عنده من «يوازن بين الألفاظ ومعانيها، ويقيس النسج بمقدار انسجامه لا بمقدار زخرفه».
هاجم الجرجاني بشدّة الناقد الرديء الذي تحكمه العصبية، سواء أكان متعصبًا للقدماء أم للمحدثين، معتبراً أن كليهما يقع في شرك الهوى فينقض موضوعيته. كما رفض اختزال النقد في تصحيح النحو أو الوزن أو الزخرف اللفظي، لأن ذلك «محاكمة ظاهرية تخلو من الروح والمعنى».
–نظرية الجرجاني في جودة الشعر:
يرى الجرجاني أن التفاضل بين الشعراء لا يقوم على الزينة اللفظية أو المحسّنات البديعية، بل على «شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته». وهو بذلك يسبق لاحقًا كثيرًا من المفكرين في بلورة ما يمكن تسميته نظرية القيمة الجمالية في الشعر العربي. فالشعر عنده ليس معزولًا عن بيئته، بل هو مرآة لثقافة الأمة وتجربتها. ومن هنا دعوته إلى منهج نقدي يتسم بالتسامح والاحترام تجاه التراث، مع الوعي بضرورة التطور والتجديد.
–إنصاف المتنبي نموذجاً:
تميّز الجرجاني بقدرته على تحقيق التوازن بين الإعجاب والنقد. فقد رأى أن المتنبي شاعر عظيم لا يخلو شعره من هنات، لكنه أقلّ عيوبًا من غيره من الشعراء الكبار. وقرر مبدأه الشهير:
«لكل سيئة عشر حسنات، وبكل نقيصة عشر فضائل».
وهو معيار نقدي عادل يقوم على الموازنة الكمية والكيفية معًا. فليس من العدل أن يُقصى الشاعر عن مرتبته بسبب هفوة منفردة، كما لا يجوز تمجيده الأعمى. هذا المنهج المقارن بين المحاسن والعيوب يجعل من الوساطة مرجعًا في الإنصاف النقدي، بل ودرسًا أخلاقيًا في موضوعية الحكم الفني.
–خاتمة:
إن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه لا يمثل مجرد وثيقة دفاع عن شاعر، بل هو معلم بارز في تاريخ النقد العربي. فيه أسس الجرجاني لوعي نقدي عقلاني يرفض التطرف والانفعال، ويدعو إلى الموازنة القائمة على العقل والعدل والجمال. لقد كانت وساطته بين طرفين متنازعين وساطة بين ذهنيتين: ذهنية الانغلاق وذهنية الانفتاح، بين العصبية والتسامح، بين الموقف والانحياز. ومن هنا، يظل القاضي الجرجاني رائدًا في إرساء نقد الاعتدال الذي يحتاج إليه الأدب — وكل فكر — في كل زمان.