✦ قراءة في رواية «للجنون فنون» ✦
منار السماك
⸻
▪︎ مدخل: حين يصير الجنون يقظةً
في عالمٍ تُدار فيه الأرواح عبر الشاشات، وتُقاس فيه الحياة بعدد الإشعارات، تأتي رواية «للجنون فنون» للكاتبة البحرينية منار السماك لتعيد ترتيب البوصلة المفقودة بين الوعي والضجيج.
ليست هذه الرواية حكايةً تقليدية، بل مرآةً رمزيةً تعكس اضطراب الإنسان الحديث وسط زيف المظاهر ورغوة الشهرة الرقمية.
منذ الصفحات الأولى، يطلّ بهلول، المجنون الحكيم، كصوتٍ ساخرٍ من عصرٍ يلهث وراء “التحديثات” وينسى تحديث ذاته.
تسخر السماك من واقعٍ يغدو فيه التفكير عبئًا، والذكاء الاصطناعي بديلًا عن الإحساس، والإنسان نسخةً متكرّرة في مسرحٍ كبيرٍ اسمه الواقع الافتراضي.
⸻
▪︎ بهلول… عقلٌ يضحك من الوعي الزائف
تجعل الكاتبة من بهلول مرآةً للزمن، يعبر المدن الحديثة ساخرًا من تناقضاتها.
في متجر التحديثات الرقمية يطلب تحديثًا للعقل، فيُحذَّر من أنه قد لا يتوافق مع الجهل.
وفي جامعة العباقرة الفارغة يكتشف تعليمًا يُخرّج متفوّقين في المظاهر لا في الفكر.
أما في صناديق السعادة، فالسعادة سلعةٌ تُشحن شهريًا، وفي لجنة تقييم الضمير تغدو الأخلاق ملفًا يخضع للفحص والمراجعة.
كلّ مشهدٍ في الرواية مشغولٌ بسخريةٍ لاذعة من مأزق الإنسان الذي فقد اتصاله بالمعنى، وراح يلهث خلف التحديث الأبدي.
الكاتبة لا تلقّن القارئ، بل تترك له أن يبتسم ليكتشف وجعه بنفسه.
⸻
▪︎ اللغة والبناء: سخرية تنبض بالوعي
لغة منار السماك تجمع بين البساطة والعمق، بين خفّة السرد وثراء الدلالة.
تكتب بعينٍ ساخرةٍ وقلبٍ إنساني، فتجعل من السخرية وسيلةً للتأمل لا للهروب.
جملها قصيرة، لكنها تفتح مساحاتٍ واسعة للتفكير، كأنها ومضاتٌ من وعيٍ متقطّع وسط صخبٍ لا يهدأ.
«الجنون فنّ حين ترفض أن تكون نسخةً من الآخرين.»
تجسّد هذه العبارة جوهر الرواية: أن يحتفظ المرء بوعيه في زمنٍ يُكافَأ فيه التقليد أكثر من التفكير.
ولأن الكاتبة تُدرك هشاشة الإنسان أمام الجمال المصنوع، فإنها تكتب بلغةٍ تمزج الفلسفة بالتهكم، والواقع بالرمز، لتُظهر أن الجنون الحقيقي هو الوعي حين يرفض الزيف.
⸻
▪︎ المعنى: إنقاذ الإنسان من التحديث الأبدي
الرواية ليست عن الجنون، بل عن الوعي الذي يختنق في عالمٍ متسارع.
تكشف السماك مأساة الكائن المعاصر الذي يعيش سباقًا لا ينتهي مع الزمن؛
يختصر الحب في رسالة، والذاكرة في منشور، والسعادة في طردٍ يصل إلى الباب.
تسخر من واقعٍ يُقدّس الآلة وينسى القلب، لتؤكد أن الخلاص لا يكون بالهرب من الجنون، بل بإتقانه كفنٍّ للبقاء إنسانيًا.
⸻
▪︎ منار السماك: سخرية راقية ووعي إنساني
منار السماك كاتبةٌ بحرينيةٌ تمزج الشعر بالفكر، والسخرية بالوعي، وتكتب من منطقةٍ ترى فيها الأدب فعلَ مقاومةٍ للزيف، لا مجرّد زخرفةٍ لغوية.
هي قاصةٌ وشاعرةٌ وناشطةٌ ثقافية وحقوقية، عُرفت بدفاعها عن قضايا المرأة والوعي الاجتماعي، وعضوٌ في أسرة الأدباء والكتّاب البحرينية، وقد شاركت في ملتقياتٍ عربيةٍ متعدّدة.
صدر لها في القصة: «سمّ الأفعى»، «غياب»، «خلف الستار»،
وفي الشعر: «قال الحب ورحل»، «ومضات»، «إليك أكتب الحنين»، «أنثى للريح»،
وفي الرواية: «نبوءة أخيل وخلود»، وصولًا إلى عملها الأخير «للجنون فنون»، الذي يكرّسها كصوتٍ يزاوج بين النقد والسخرية، بين الأدب والفكر الإنساني.
⸻
▪︎ خلاصة
«للجنون فنون» ليست دعوةً إلى العبث، بل إلى استعادة التوازن في عالمٍ فقد معناه.
تكتب السماك لتذكّر القارئ أن النجاة لا تكون بالعقل البارد ولا بالجنون الأعمى، بل بالقدرة على أن نرى العالم بعيونٍ لم تُطفئها الشاشات.
✦ «الجنون ليس أن تفقد عقلك، بل أن تفقد قلبك وتظن أنك بخير.»
⸻
✦ إهداء ختامي ✦
إلى الكاتبة منار السماك،
التي جعلت من الجنون مرآةً للوعي،
ومن السخرية طريقًا نحو إنقاذ الإنسان من زيفه.
تقديرًا لقلمٍ يُنير بالضحك، ويُبصر بالحكمة.
قراءة: ✦ نازك الخنيزي ✦



















