حين تُولد الروح ثانية: في الحبّ والوعي كوجهين للوجود:
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
ليس الجمال ما يُغري القلب بالاقتراب، بل تلك النغمة الخفية التي تتسرّب من روحٍ إلى روح، كأنها تواطؤ سرّي بين كائنين يعرفان بعضهما قبل أن يلتقيا. أنت لا تحبّ شخصاً لمظهره أو شكله، بل لأنّ موسيقى تصدر منه لا يسمعها أحد سواك. تلك الموسيقى ليست نغماً سمعيّاً، بل ذبذبة وجوديّة تُصيبك في العمق، فيجتاحك إحساس غريب بأنّ شيئاً فيك عاد إلى مكانه القديم.
إنّ الحبّ في جوهره ليس انجذاباً، بل تذكّرٌ للجوهر الواحد الذي انقسم، ثمّ يسعى في الآخر إلى استعادة اكتماله المفقود. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: نحن لا نحبّ من خارجنا، بل من داخلنا، ولا نُفتن بالآخر إلا لأنّ فينا ما يتعرّف إليه. كما يقول أفلاطون في “المأدبة”: إنّ الحبّ هو شوقُ الجزء إلى كُلّه.
أما الوعي، فهو الميلاد الثاني للإنسان. لا تبدأ الحياة بالولادة، بل حين نفتح أعين الروح على ما وراء الصورة، وحين ندرك أن وجودنا ليس ما نراه فحسب، بل ما نفهمه ونعيه ونحياه بمعنى. يولد الجسد مرّة، لكنّ الوعي هو الولادة التي تمنح للحياة معناها. فكم من كائنين يمشيان على الأرض دون أن يولدا بعد!
الحبّ إذن هو الشرارة التي توقظ الوعي، والوعي هو النور الذي يُطهّر الحبّ من الغريزة. كلاهما فعلُ يقظةٍ ضدّ العمى الداخلي. ففي اللحظة التي نسمع فيها موسيقى الآخر – تلك التي لا يسمعها أحد غيرنا – نكون قد لمسنا في داخلنا جوهراً كان صامتاً، فاهتزّ وأفصح عن وجوده.
إنّ الذين يعيشون بلا وعي، كمن يمرّون بالحياة كما يمرّ الغيم بالسماء، لا يمسّ شيئاً ولا يُمسّ به شيء. أما الذين يوقظهم الحبّ، فهم وحدهم من يتذوّقون سرّ الوجود، لأنهم لم يولدوا من رحمٍ فحسب، بل من دهشةٍ، ومن جرحٍ، ومن نغمةٍ تشبههم.



















