معزوفة الصمت
لا زالت تلك اللحظات لا تفارق مخيلتي كما لو أنها اليوم، صوت التفجير في بيروت، رائحة الدّم ومشهد البيانو المكسور ومفاتيحه المتطايرة في أرجاء الغرفة.
كانت تلك آخر مرة لمست أصابعي مفاتيح ذاك البيانو، ومنذ تلك الليلة صمتت معزوفاته، وأطلق لساني العنان لمعزوفات من نوع آخر، معزوفات أمل وُلدت من ألم.
كان علاج إصابتي هو الوقت والتمرين، وكان لا بدّ لامرأة مثلي ألا تستسلم رغم كل الأوجاع. فأنا من النساء متعددات الألقاب، أنا الطالبة والعاملة في آن معاً، الزوجة والأمّ والإبنة في آن معاً.
لقد كانت أيامي مليئة بالواجبات وبالكاد أجد وقتاً للكتابة ليلاً. وعند إصابتي وما نتج عنها حولي من تغيرات، وجدت أن المجتمع الذي تشارك فيه المرأة هو تماماً كمشاركتها في منزلها، إنما بشكل أوسع، والمرأة بالفطرة تلعب فيه دور الاحتواء ذاته الذي تلعبه في بيتها.
ففي البيت، ما إن أُصبت، توتر الجو العائلي، تغير نظام أولادي وزوجي، وتكاتف الجميع للقيام بما كنت أقوم به وحدي في الأيام العادية.
في العمل، ولسدّ الحاجة في غيابي، تم الاستعانة بموظفين اثنين من زملائي الذكور، لمتابعة الشؤون بنظام وسرعة يضاهيان عملي. لطالما تساءلت لماذا معظم المدراء رجال، وعاملات النظافة والضيافة نساء!؟
أما عن أخي، فاضطرّ لخدمة والديّ العجوزين في بداية فترة علاجي، لكنّه سرعان ما قرّر الاستعانة بممرضة خاصة تهتم بشؤونهما ريثما استعدت عافيتي وقوتي.
خلال مرحلة الامتثال للشفاء، قررت أن أرسل رسائلي الايجابية للأجيال الصاعدة عبر الكتابة، استغليت فرصة الفراغ الذي أعاني منه وبدأت بمشروع كتاب.
بعد النهوض من هول المصيبة، أتممت دراساتي العليا وقرأت الكثير من الكتب حول النساء الملهمات، حاولت أن أجد قاسماً مشتركاً بيني وبين كلّ واحدة منهنّ. جمعت ما استطعت من قوة وانطلقت.
شجّعت صديقاتي على العمل، وحرّضتهنّ على ضرورة تواجدنا ودورنا الفعال والمنتج في الأمن المجتمعي تماما كدورنا في أمن عائلاتنا وأطفالنا. فكلما بنينا مجتمعاً مثقفاً، كلما تجنبنا الجرائم والسلوكيات المؤذية.
أنشأت مجموعات ساعدتني لايصال أفكاري عبر وسائل التواصل الإجتماعي، ثم أطلقت كتابي الأول فأيقظت في نفوس الأخريات ثورة توظيف الفطرة التي خلقنا عليها.
وفي حفل توقيع كتابي، كان أبي أول الفخورين وزوجي وابني أيضاً، والكلّ فخور بإنجاز امرأة.
ومن بين الحضور صديقاتي اللواتي يقاسمنني النجاح.
إحداهنّ طبيبة، أذكر أنها في آخر فترة لم تعد إلى المنزل لليالٍ متواصلة، فقد كانت تداوم ليلاً نهاراً للمساعدة في تخطي الأزمة الصحيّة.
صديقتي الأخرى موظفة في جهاز الأمن، حدثتني كثيراً عن ليالٍ طوال قضتها مع المجرمين ولم تعد إلى منزلها، بسبب تفتيش أو تحقيق أو مهمة خاصة، وفي كل مرة كنت أرى فيها بطلة.
أما عن تلك المحامية التي تحلم بأن تجلس يوماً على كرسي القضاة، لا زالت تكافح بين مقاعد الدراسة والامتحانات والدورات الرسمية وبين قاعات المحاكم، وأنا على يقين أنها ستكون يوماً إحدى القاضيات ولن يكنّ أقليات.
وآخر الصديقات ربّة منزل، لم يحالفها الحظ في إتمام دراستها، وانفصلت مؤخرا عن زوجها المعنّف. فتحت مشروعاً صغيراً يعيلها، عبارة عن مطبخ منزلي يؤمن الوجبات الغذائية للموظفين.
هذه هي المرة الأولى التي أعزف بها بعد تلك الليلة، ففي قاعة حفل توقيع كتابي، بيانو مركوناً في الزاوية، تجرّأت وتركت أصابعي تروي فوق مفاتيحه حكايتي، وعلى وقع معزوفاته اختتم الحفل و بدأت أرسم هدفي التالي كإمرأة.
زينب رمال
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي