سولفات… أم علي وأم عمر
.
خمسون عام مضت، جيران وعتبات الدار نالت من حفيف أقداهمن. موعدهما الصباحي قهوة مرة تغلي والنار تزغرد حرة تحت الركوة المعتقة بأناملهن. تفور القشوة الشقراء بسولفاتهما، تشاركهما حكايا العمر شفة شفة.. تجاورا وباب الدار حمل في أثلامه الباهتة جمال الصبى، أحمال تربية جيل وحكمة عمر شابت خصلاته وأرتمى منديلا يزين أكتافهن المنحنية خجلا من حسد الصغار. إرتقيا معا هذا السلم الطويل، وغلاظة وتر العود لم تنهل من صداقتهن. بين القهوة والنرجيلة سمفونية تتلوى في غيوم الصباح وتغرد مع كل حرف وكلمة همومهن. يتردد صدى اصواتهن في جدران الدار الصفراء. يوما تحمل أم عمر “علي” وتهدهد له كي ينام لتكمل صبحيتها وثرثرتها على باقي الجيران. ويوما تلتهب نار أم علي في عروق اليد الزرقاء تأخذ “عمر” ويصدح صوتها ” هيتي الولد، انت ما بتعرفي كيف بيطبطوا عا الصغار”. قصصهن اليومية رواية يتداولها الأبناء والأحفاد في حلقات ضحك لا تنتهي، تزرع في أحداقنا فرحا إضمحل وذاب كشمعة مع كل قهر وتعب انسل وراء ستائر الصمت المسكون برهبة الأيام. قال علي : “كنت أستفيق على أصواتهن، منبه صباحي يسرقني من سهادي وأحلامي، ففي أحد الأيام وعند الصباح الباكر وقبل (الصبحية المعتادة) أسرعت أم عمر لنشر الغسيل ولكن المنشر تحداها وبقي قسم منه يرتع في قلب الوعاء الأخضر، أخذت أم عمر ” الجاط” ومن كثرة فرحتها بقهوة أم علي نسيت الماعون والغسيل المتبقي في المطبخ. رأتهم أم علي ذات الهمة ونشرته ودار العتاب بينهن وتلاقت شرارة العينين الموغلتين بلوم وحب وعتاب وإعتذارات، لم أفقه بالطبع منه شيء سوى عشقهن المعتق في خوابي اواصر قربى لا يفهم مذاقه اللاذع سواهن”.
شيعية وسنية… النسب والهوى، لم تفرقهن الحرب الطويلة. عجينة الألم استوت في تنورهن والدمع خالج مقلتيهن معا والبسمة أزهرت وردا معا فوق ثغرهن والليالي المظلمة على أدراج سلم البناية يشهد على عرائس اللبنة والجبنة والزعتر التي تطعم نهم أطفالهما ويطفئ جوع متمرد على صوت القذائف وعلى كل الخوف من غد مبتور الأصابع . فطرة إسلامهما نبع إنسانية تترفع عن صغائر الكراهية والبغض، وأخلاق تربعت فوق عرش الدنيا. لم يغزو إعلام التفرقة سورهما المجبول بتفاصيل لا يفقهها الحاقدين، لم تتلون خلاياهن بسموم الطائفيين والمذهبيين، عانقت أرواحهما نسائم صيف ملتهب وأودعت في أساريرهما عبودية الله الواحد الأحد … أدمنتا سماع نشرات الأخبار وكم دار بينهما حوارات مشحونة وكلمات تفرد بها قاموسهما العجيب… تارة أم علي تزود بسيفها البتار عن السيد “الله يطول بعمره لولاه كانت إسرائيل بعقر دارنا وما في حدا يردها” وكان يحلو لأم عمر إشعال غيظها فترفع هالة الحريري فوق أهدابها “لولاه ما كان في بلد وإعمار” . صمدت فطرتهن في زمن الهرطقات والمتشدقين بالدين وفلاسفة العصر الجديد وتعطرت تربتهن السمراء بلحن وحدة جبلت بالصبر وضحكة ترن في ضواحي البؤس حيث ترعرع في أزقتها أجيال من كل لون ودين ومذاهب، فأقرضتنا عادات وتقاليد جميلة نحن إليها كلما ضاقت بنا سبل العيش الكريم .
في هضابنا وسهولنا الممتدة عمقا في كتب التاريخ، كم من أم علي وأم عمر وأم إلياس وأم جرجي وطواحين جيرة وأخوة طحنت معا حبوب قمح زودتنا بنار عشقها خبزا مقدسا نحمله في غربتنا عن هذا الزمن اللعين.
سمر دوغان
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي