بقايا كلام
فقدت عينا أبي نافع بريقهما، منذ قلع أضراسه المنخورة وأسنانه المعطوبة واحدًا تلو الآخر. وجثمت حفرتان صغيرتان وسط خديه الشاحبين الغائرين نحو فم فرغ من محتواه الأبيض.
في هذه الأزمة الاقتصادية الطاحنة لم يكن أمامه سوى ثلاثة حلول واختار الأسوأ لأنه الأوفر.
لقد كانت كلفة إصلاح الأسنان أغلى بكثير من تركيب “طقم” جديد لا يملك عشر ثمنه حتى.
في هذا اليوم، وبعد غياب أسبوع عن حديقة الأندلس “شمال اللاذقية” حيث يجلس ويلعب طاولة الزهر مع أصدقائه المسنين، قرر أن يشاركهم نزهتهم إلى الشاطئ القريب من المقهى القديم الذي كان يدعى ؛ “سفينة نوح”.
وبدل أن يجلس في البيت ويسامر الحيطان بضجر وصل بحماسة معهم إلى هناك.. وغادرته فورًا تلك الأفكار الشيطانية التي تراوده عادة حين يشاركهم الحديث و يثقل لسانه بالكلام لخلو فمه من الأضراس والأسنان.
كانت زرقة البحر قد بلغت أعماقه بصفاء غريب وهدوء لا يوصف. و استمتع سمعه أيضًا برقرقة الموج الذي لم يكن هادرًا، بل انساب برفق وحنان على الشاطئ و داعب مشاعره بحنين عميق كالسماء الممتدة فوقه.
فجأة اقترب منهم طائر ضخم بحجم حمل صغير، ويتجاوز طول جسده تقريبًا قدمين، ومنقاره طويل جدًا و مزركش بطريقة فنية إعجازية لا يتقنها إلاّ الخالق عزّ وجلّ.
كان الطائر قد مكث هادئًا إلى جوارهم ينظر إليهم بترفع ولم يُظهر أي عنف.. فقط وقف دونما حركة وظلّ يراقبهم بفضول وصمت وكأنه يود صحبتهم.
وبينما كان أبو محمد يفتح طاولة الزهر قال أبو ابراهيم بحيرة:
ـ ترى! ما اسم هذا الطائر؟. ليس بلقلق ولا البجع. له اسم بالتأكيد ولا نعرفه.
لكنّ أبا نافع كان يعرف هذا الطائر المسالم، وخجل من لثغ الحروف فلبد صامتًا.
ثم، فجأة نهض، وبحث عن عود ليقرفص بعد قليل ويكتب به على الرمل؛ { اسم هذا الطائر أبو منجل، وكان مبجلًا لدى المصريين القدماء. وكانوا يعتبرونه رمزًا للحكمة والمعرفة ويدفنونه مثل أي إنسان محترم.}.
عندما انتهى من الكتابة قام وأشار إليهم بيده لينظروا إلى الأسفل.
أبو ابراهيم كان الأكثر دهشة وعجبًا.. ما إن انتهى من القراءة حتى قال بحماسة لاثغًا بالحروف إذ كان قد قلع أضراسه هو الآخر في غياب أبي نافع في الأسبوع الفائت:
ـ أبو “منثل”!. “شي ذريف والله.. اشم على مشمى”.
وهنا ضحكوا بغرابة، فشعر أبو ابراهيم بالحرج.
وكان أبو نافع خلال ذلك يتأمل صديقه بحذاقة وسرور، وقد اطمأن إلى أنه لم يعد وحيدًا في لثغ الحروف، وصار بإمكانه التحدث براحة ومشاركته المرح والعبث بأي كلام. ربى منصور
رحاب هاني /صمت
اعدو وراء الصمت، اتعثر بظله .عجباً به كيف يختفي!كيف يلتحف ضباب الأحلام و يستقي من رذاذ الأوهام؟خانتني الرؤية من جديد...
اقرأ المزيد
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي