
ولد متمرد.
قصة قصيرة
القاص :علي عزيز
لم اكن كما انا الان، سابقا كان ابي يحبني كثيراً ، وكأي أبٍ ، اراد ان يعلمني الاخلاق الحميدة ، كان كباقي الرجال يهتم بالتقاليد ، يأخذني معه أينما ذهب ،فاذا حل علينا ضيف او التقينا صدفة بأحد معارفنا في السوق او المسجد ،كان يلتفت الي ويقول (أزاد) قبل يد عمك. وانا دون تردد مثل قرد الهنود بإشارة كنت افعل مايقول ، في كل مرة أنفذ امره ، أراه يومئ براسه مبتسما ، لارضائه احيانا دون أن يطلب ، كنت اقفز و اقبل الايادي الموجودة هناك، كثيرة تلك الايادي التي قبلتها ، السوداء والبيضاء، الخشنة والناعمة ، الكبيرة والصغيرة ، المحروقة والمشلولة، انتم قولوا لي ما هي اليد التي لم أقبلها.؟!، قبلت يد العم والخال ،الشيخ ، والمسكين ،الحجاج و الملالي ، حتى انني قبلت يد التافهين !!.. البعض منهم كان يبتسم و يرخي يديه اكثر والبعض الاخر كان يسحب يده ويقول (استغفر الله). ولكن كانت هناك فئة اخرى ، كنت ارى الشفقة في نظراتهم ، تلك النظرات التي جعلتني افكر فيما بعد عن ماهية الاشياء و بالأخص تقبيل الايادي .
حينها كنت في الثانية عشر من العمر، بدأت أشعر بالامور التي تدور حولي و أفكر بإتخاذ المواقف تجاهها وايضا كنت اميز الخطأ من الصواب ، في تلك الليلة لم استطع النوم ، فكرت بعمق، شككت بالكثير من الاشياء المريرة ، من ضمنها حب والدي لي ، فندت شكوكي وقلت لنفسي ان الاب يحب ان يرى ابنه أحسن منه ويفتخر به امام القريب والغريب ،لكن مرة اخرى شعوري المقزز بتقبيل الايادي، كان يكذب اعذاري ، تسألت أذن لماذا لا اشعر بالفخر ؟!.. لماذا ينتابني الخجل حينما اتذكر هذا الامر ، لا اعرف ؟!!.
كل ليلة بمجرد وضع راسي على وسادتي ، كنت اغط بنوم عميق فقبل تلك الليلة لم أكن متعبا بهذا الشكل ، تَجمعت في رأسي الكثير من الكلمات والاصوات والصور ودون وصولي لنتيجة ، نمت مع بداية الصباح .
حب والدي كان له اسبابه ، اكتشفت ذلك متأخرا ، انذاك كنت الابن الوحيد لعائلة مكونة من اب وام وخمس اخوات ، ففي مجتمعنا كان للذكور اهمية في ذلك الوقت ولا يزال هذا التمييز مستمرا مع انني لم اعرف ولا ازال لا اعرف سبب احترام الذكر ، ولماذا ينظرون للانثى بازدراء وتهميش ، ربما هو نتاج الثقافة السيئة التي لا ادري كيف ومن اين جاءت الينا.
علمت فيما بعد ان ذلك مرتبط بتاريخ ديني واجتماعي طويل جدا ، يعود لزمن الغزوات والجهاد والحروب الطائفية ، فهذا ما جعل للولد مكانة و البنت تقوم بالاعمال المنزلية وخدمة الرجل، الغريب ان والدتي كانت كل عام تنجب طفلا، متاملة ان يكون ولدا ،لترضي أبي و كي لا يتنمر عليها بسبب خلفتها للبنات و ايضا حتى لا يتنمر الناس على والدي بقولهم ابو البنات ، وبعد الكثير من التضرع والعبادة والذهاب الى المشايخ والملالي واستخدام انواع التمائم ، انجبت امي ولدا، بسماعه للخبر اكتفى والدي بالابتسامة ، لكن السعادة غمرت قلب امي وليس هذا وحسب فقد كانت بعد كل ولادة تستلقي في السرير لمدة اسبوع، هذه المرة وبعد يوم واحد قامت وانجزت بكل عنفوان جميع الاعمال المنزلية و لمدة اسبوع كانت الابتسامة لا تفارق وجهها ، كانها ولدت وهي تبتسم ، بعد سبعة سنوات تم تهميشي ، اكتسب اخي (ئاسو ) محبة واهتمام الجميع.
ليس هذا وحسب، بل كان والدي يغضب مني باستمرار ، أحيانا كان يضربني دون سبب ، حتى جاء ذات يوم ووضع يده على كتفي وقال عزيزي ازاد ، فوجئت من كلمة عزيزي ، كان الامر اشبه بسكب الماء البارد على قلبي المشتعل ، كان الامر غريبا بالنسبة لي، فلم اسمع مثل هذه العبارات منذ زمن طويل، واصل والدي حديثه ، كنت استمع له ليس باذني فقط بل بكل جوارحي ،قال ان شيخ قبيلتنا سياتي الى منزلنا غدا و عند دخوله الباب اريدك ان تذهب وتقبل يده.
قبل ان يولد اخي (ئاسو )كنت ابنا مطيعا لوالدي ، فقد نشات على احترام الاخرين كبارا كانوا ام صغارا، رجالا كانوا ام نساء ، معارف كانوا ام غرباء ولأنني كنت الاخ الوحيد لخمس اخوات ، اهتموا بنظافتي واناقتي، لم يسمحوا لي بالخروج من البيت لم استطع اللعب مع الاطفال، كانوا يخافون ان أسقط او يحدث لي مكروه او تنكسر يدي او قدمي اثناء اللعب ، كثيراً من الاحيان كانوا يخافون من الحسد الذي لم اكن اعرف ما هو ولم افهمه وقتها، كلما جاء ضيف لمنزلنا لم يكن والداي ينصحاني فقط ، بل اخواتي ايضا كانوا باشارة يقولون اجلس بهدوء ، خشية ان يبدر مني خطا غير مقصود ، فوالدي كان يردد مقولته دائما (في مجالس الكبار يجب على الصغار ان يستمعوا ) رغم انني كنت هادئا الا انهم كانوا يصرون على هذا الامر، قد يكون هذا الامر صحيحا وجميلا بالنسبة لهم..؟ لكن كان ثقيلا بالنسبة لي، فالجانب المجهول الذي لا يراه غيري جعل مني طفلا جبانا وخجولا، ليس ذلك الوقت فحسب ، بل ما زلت اعاني حتى الان من ثقل ذاك الشعور، و ما زلت ادفع ضريبة الاحترام الذي كنت ابديه للاخرين ، فقد صار عادة لا استطيع التخلص منها ، هذا ايضا جعلني اخسر الكثير ، لانهم كانوا يفسرون احترامي لهم بأنه خوف ، لكن عندما كبرت أدركت ان احترامي لهم وسوء فهمهم كان نتيجة لتربية سيئة للعادات والتقاليد التي يفرضها المجتمع على الافراد، المجتمع الذي يعلمك ان تنحني برأسك وتقبل الأيادي و يسميه إحترام و يفسر احترامك الحقيقي بالخوف، هذا مجتمع منافق مافون وقبيح ، قلت لأبي (لا) لن ٱقّبل يد احد بعد الان ، جحضت عينا ابي من شدة الصدمة ، ظل صامتا للحظة ، لم يكن يعلم ان الذي يسمعه حقيقة ام خيال!!، كانت هذه هي المرة الاولى التي يسمع فيها كلمة (لا) مني وكانت المرة الاولى ايضا التي شعرت فيها بأنني انسان ولست ببغاء او فزاعة، لطالما أردت التخلص من هذا الخجل والخوف ولم استطع ، يوم الرفض هذا ، كان بمثابة ثورة على العادات البالية على مجتمع منافق وكذاب ، على تربية بشعة وقبيحة ، تحررت من تلك القيود ومنذ ذلك اليوم تخليت عن ازاد الخائف والخجول ، تمردت على القواعد والقوانين العمياء ، و لان ثمن الحرية باهظ فقد لحقني والدي بالعصا و اخرجني من المنزل.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي